في سياق استعراضي للعناصر التي دفعت بي الي وقفة موضوعية مع الإخوان المسلمين, بعد تطورات خطيرة اعترت المشهد الوطني مؤخرا.. توقفت أمام العلاقات المصرية/ التركية وقلت إن إدارة الإخوان الحالية دفعت بها الي ما وراء الحد الذي التزمته مصر دوما, بما يمثل خطورة علي الأمن القومي, فقد كان هناك تعاون اقتصادي سمحنا به في اطار محدد وفقا لمصالحنا, وكان هناك تنسيق عسكري صدروا لنا بموجبه قطع غيار طائراتF-4, وأجرينا وفقا له مناورات بحرية مشتركة في المتوسط, ولكننا لم نسمح بالتحالف السياسي, والتحالف عادة اذا كان بين طرف قوي, والآخر ضعيف, يؤدي الي أن يصبح الضعيف تابعا والقوي متبوعا.. وتركيا كما قلنا عانت طويلا من فشل سياساتها الخارجية بما دفع الكاتب البريطاني الشهير روبرت فيسك مؤخرا الي كتابة مقال بعنوان:( فشل الدبلوماسية التركية), يشير الي اخفاقات أنقرة في أرمينيا, وفي استعادة الدور العثماني في البلقان, وكذا في ليبيا( إذ تحالفت أنقرة مع نظام القذافي قبل التغيير طمعا في عقود بناء فنادق وفرص عمالة وغيرها, ثم انقلبت بعد تغيير القذافي, متصورة أنها ستأخذ عطاءات وشغلا من النظام الجديد وهو ما لم يحدث حتي الآن).. كان ذلك الفشل المتوالي سببا مباشرا في استماتة تركيا لتحقيق وجود سياسي حقيقي في مصر والمنطقة وإعادة إحياء المجد الامبراطوري العثماني.. وأعود لأكرر أن كلا من تركيا ومصر( حليف أطلسي) للولايات المتحدة, والغرب وإن كانت الأولي عضوا في الناتو, والثانية حليف غير عضو في الحلف(Non-Nato-Alley) فالدبابة والطائرة مصدرهما واحد لكل من القاهرةوأنقرة, والفلسفة الأساسية لبناء القوة العسكرية عند الاثنتين واحدة, وان اختلفت الأهداف السياسية في النهاية, مع التأكيد علي أن التنسيق العسكري يظل مهما, خاصة مع ما يتردد في المنطقة من حديث عن (حرب قادمة) ربما تسببها مواجهة متوقعة مع إيران في الخليج, ترد طهران أثناءها في إسرائيل أو قناة السويس مثلا( كما تشير تنبؤات بعض الخبراء).. ولكن ذلك التنسيق يتم في إطار العلاقة مع الحليف الأكبر( أمريكا), وفي سياقها كان المخطط السياسي التركي, يحاول التحرك بتوتر( كلما فشل) من أجل التخديم علي المصالح الاقتصادية والمشروع الامبراطوري الذي يداعب مخيلة حكام أنقرة. حكومة أردوغان تبنت مواقف حادة مع إسرائيل, وبدا رئيس الوزراء التركي في أكثر من موقف( عصبيا حماسيا متطرفا), فكأنه الوجه الآخر لعملة عبدالله جول( الناعم الحويط), ونوعت أنقرة استخدام المنهجين لتحقيق مستهدفها السياسي.. وكان التشدد التركي يهدف من جهة الي اشباع احتياج التحولات الحالية علي المسرح الداخلي التركي, والتي يرضيها قطعا ذلك المنهج مع إسرائيل, ومن جهة أخري فإن الترك وعبر تلك المواقف يحققون شعبية حقيقية عند العرب والدول الإسلامية, حيث( السوق) التي يسعون الي تفريغ طاقاتهم الاقتصادية فيها, ومن هنا كانت المواجهات التركية مع إسرائيل عملا محسوبا علي نحو دقيق جدا لأن أنقرة تعلم أن تلك المواجهات يمكن أن تؤدي بعلاقاتها مع واشنطن الي حد التضرر, والتوعك في حين أمريكا متعاطفة مع دخول تركيا لأوروبا( الحلم الذي طال انتظاره). ولقد كشفت الأيام عن رغبة واشنطن في أن يحكم نوع معين من الاسلاميين بلدان المنطقة( وهو ما كنا نقرأ عنه لسنوات طويلة في أوراق بيوت التفكير ومراكز البحوث الأمريكية ويعمد بعض الحمقي والجهلاء عندنا لنفيه قطعيا).. وحين أرادت أمريكا استغلال الظرف الموضوعي للموجة الشعبية المطالبة بالتغيير في عدد من أقطار المنطقة لتحقيق مخططها( الذي يراجعه البعض في واشنطن الآن) في الاعتماد علي لون بالذات من التيار الاسلامي, رأت أن تستعين بحليفين اقليميين هما:( تركيا) و(قطر) ضد أهم لاعبي الساحة الإقليميين وهو حليفها التقليدي القديم( مصر), لا بل وأعادت لذلك الغرض توصيف مصر بأنها( ليست حليفا وليست عدوا) وصارت كل من أنقرة والدوحة رأس حربة في عملية التغيير الكبري محققتين أهدافا ومصالح اقتصادية هائلة الي جوار تخديمهما علي المشروع الأمريكي, فتدخلت قطر في ليبيا عسكريا وسياسيا وصادقت تركيا علي ذلك, فيما عملت تركيا علي التدخل في سوريا عسكريا مدعومة بالناتو, وسياسيا عبر مساندتها الائتلاف الوطني السوري للثورة والمعارضة الذي صادقت قطر عليه( ودول مجلس التعاون الخليجي طبعا). علي أية حال, فإن خطورة التأثير التركي في المربع المصري لم تأت إلا من مغالاة بعض الإخوان وبعض عناصر إدارة البلاد في الانبهار بالمواقف التركية( التي سبق وأوضحنا كيف وظفت عبر الشعار السياسي العلني الصاخب كل المعطيات العملياتية للتخديم علي مشروع أنقرة( الذي يسحب غطاء سياسيا علي المصالح الاقتصادية التركية) وقد ساعد علي ذلك الانبهار الاخواني مواقف أعلنتها تركيا بطريقة استعراضية مثل قرض الاثنين مليار دولار( لاحظ أنه قرض) وقد أعقب لدهشتنا اعلان أحمد داود أوغلو عن توجيهات أردوغان له بإجابة طلبات مصر علي بياض( فماذا كانت تركيا ستفعل إن كان الملياران مساعدة أو هبة وليسا قرضا؟). نحن لم نشهد من موسكو وقت مساعداتها العسكرية والاقتصادية المغرقة عام 1967 شيئا كذلك, ولم نر من دول الخليج العربي الشقيقة في سلسلة هباتها لمصر شيئا كذلك, وأيضا تأملوا حالة اليابان حين منحتنا دار الأوبرا هدية بالملايين لم تتحدث عنها بلغة نقوط الأفراح كما تفعل تركيا في قرض سنسدده. وربما أرجعت بعض الانبهار الاخواني بالشعارات الصوتية التركية الي تصورات الاخوان عن تركيا, التي تخالف تصورات تركيا عن نفسها.. وبدا ذلك جليا حين تحدث بعض الاخوان ابان زيارة أردوغان الأولي للقاهرة بعد يناير 2011 عن تركيا بوصفها دولة إسلامية دينية, فاضطر اردوغان الي تعنيفهم مؤكدا في خطابه بمأدبة العشاء أن تركيا (علمانية) فرحل مشيعا بلعنات جماعة منهم بعدما استقبله الجميع بالطبول والزمور.. البعض في بلدنا الآن للأسف يسوقون مقولات فيها انسحاق شديد أمام تركيا واعجاب مدله بأنموذجها كما لو كانت دولة المثل الأعلي التي تنطلق في جميع مواقفها من روح مبدأية, فيما هي في نهاية المطاف دولة لها حسابات وتريد أن تتمدد علي حساب مصر المنهكة, محققة خطوة في طريق مشروعها ومصالحهاوأجندتها الخفية أو التي خفيت علي البعض منا.. وأكمل عنصر العلاقات المصرية التركية في الاسبوع المقبل. المزيد من مقالات د. عمرو عبد السميع