مازلت أعرض بحرص علي استعدال المسيرة السياسية الوطنية لحزمة العناصر التي دفعتني الي وقفة موضوعية مع رفاق الوطن من الإخوان المسلمين, وقد فرضت تلك الوقفة تطورات خطيرة وقعت خلال الشهور الماضية, علي الرغم من مطالباتي السابقة بعدم التهجم علي الإدارة الحالية وإعطائها فرصة كاملة لطرح فكرها الإداري, وعناصر سياساتها علي المجتمع.. واليوم أكمل: سادسا: بيقين فإن الموقع الذي تحتله العلاقات الثنائية بين مصر وتركيا( تحت إدارة الإخوان) هو من الأشياء التي تحتاج بعض مراجعة, إذ تختلط الآن وعلي ألسنة الإخوان, مفاهيم( التعاون) و(الصداقة) و(التحالف), لا بل( الخلافة), و(التتريك) في توصيف تلك العلاقة علي نحو أبسط ما يقال فيه إنه يفتقر الي أي قدر من الوعي. تركيا دولة إسلامية/أوروبية, عليها الاستمرار في صون وتدعيم ارتباطها السياسي والأمني والعسكري بحلف الناتو.. وقد تعاظمت قوة تركيا الاقتصادية( ناتجها القومي المحلي يقرب من المليار دولار), في السنوات الأخيرة علي نحو فرض علي أصحابها البحث عن طريق لتفريغ تلك القوة, أو إيجاد تعبير سياسي عنها وراء الحدود التركية, فلما بدا أن الطريق الي أوروبا مسدود, سعت أنقرة الي دعم تأثيرها علي الساحتين الإسلامية, والعربية, وبدأت بجمهوريات آسيا الوسطي( فيها 50 مليونا يتحدثون التركية), ودعمت التعاون معها في مجالات التجارة والمعمار وبناء المدن الجديدة, كما أنشأت منطقة تجارة حرة جنوبي تركيا لتخدم علاقات أنقرة مع( العراق سوريا الأردن), وعقدت مع تلك البلاد اتفاقات تنفتح الأسواق فيها أمامها, بحيث تخلق تلك الأسواق مجالا حيويا لتركيا, أما بالنسبة لمصر وعبر معونة من بعض رجال الدولة المصريين, منهم المهندس رشيد محمد رشيد وزير الصناعة والتجارة الأسبق, وبعض رجال الأعمال من الإخوان مثل الدكتور حسن مالك والمهندس خيرت الشاطر( وجميعهم يرتبطون بعلاقات تقديم المشورة والتجارة مع رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا, بالإضافة الي مجموعة خبراء من الشرق والغرب), فقد نجحت أنقرة في بناء رؤوس جسور اقتصادية مع القاهرة, وكان المهندس رشيد كثيرا يردد أن التعاون مع الأتراك هو علي أساس( اقتصادي/ فني) فحسب, وليس له بعد أيديولوجي أو إسلامي, وأن عوامل ثلاثة شكلت إغراء لأنقرة بالسعي الي مصر هي:( طاقة رخيصة+ سوق ضخمة تضم نحو 85 مليون مستهلك+ عمالة رخيصة). كانت مصر وقتها تنمو بشكل مضطرد, واشتغلت علي تشييد مجموعة من الموانيء الحديثة, فأبدي الأتراك رغبتهم في استخدام تلك الموانيء للتجارة مع إفريقيا, ووجدوا مصر تمد شبكة طرق عملاقة, فرغبوا في استخدامها لتوصلهم الي السعودية ودول الخليج, واكتشفوا أن اتفاق التعاون المصري الأوروبي يخفض التعريفة, ويعطي مصر أفضلية, فطرحوا أن نعمل معا ونقدم منتجات يمتزج فيها المكون التركي مع المصري, ويستفيدوا هم بالتبعية من الاتفاق المصري/ الأوروبي. يعني بالعربي الأتراك انتهازيون براجماتيون علي استعداد لفعل أي شيء من أجل ثلاث نكلات زيادة في دخلهم, والموضوع( علي ذلك النحو) كان اقتصاديا في الأصل والأساس, أما علي المستوي السياسي والأمني القضية مختلفة, فالاثنين حليفين لأمريكا.. تركيا(Nato-alley) تتعاون ومصر (Non-Nato-alley)وهي تسميات معترف بها ولها توصيف دقيق, ويجمع الدولتين الفكر والمنظومة الغربية في التسليح( راقب تصدير مصر لقطع غيار الطائراتF-4 الي تركيا), والمنظومة الاستراتيجية في العمل بالبحر المتوسط( راقب المناورات البحرية المشتركة السنوية بين البلدين), ولكن ذلك النوع من التعاون شيء, والتحالف السياسي لتعزيز المصالح التركية الاقتصادية شيء آخر.. وكنت أرصد قبيل أحداث يناير 2011 رحلات وزير الخارجية التركية أحمد داود أوغلو التي كان ينط ويفط فيها بطائرته الي القاهرة كل عدة أسابيع, ليقابل السيد عمر سليمان, مدير المخابرات الأسبق, وأحمد أبو الغيط وزير الخارجية الأسبق محاولا استخدام مصر لتحقيق( العثمانية الجديدة), وصاحب ذلك المسعي انشاد جوقة من السياسيين والخبراء الباحثين بجهل أو بغرض عما سمي:( التتريك), باعتبار النموذج التركي في النمو والاصلاح السياسي هو الوصفة التي ينبغي علي مصر اتباعها, وعلي نحو يستعيد لتركيا موطئ قدمها في أرض العرب التابعة للدولة العثمانية القديمة من جديد, بعدما خرجت منها عام.. 1917 وكانت وجهة النظر المصرية وقتها تقوم علي اننا( برغم قبول التعاون الاقتصادي الوثيق مع أنقرة), لا ينبغي أن نسلم لها بدور سياسي في المنطقة وإلا ألقتنا أرضا, وأقالتنا من الوجود بحجمنا السياسي الواجب فيما نعده مجالا حيويا مصريا. كانت دائرة صناعة قرار السياسة الخارجية والأمن القومي في مصر, تري أن العلاقات المصرية/ التركية ينبغي أن تتطور ولكن في حدود تراها وتسيطر عليها, فسمحت لهم بمنشآتهم الصناعية في المنطقة الحرة ببرج العرب, وسمحت لعبدالله جول( الناعم الحويط) بأن يخاطب مجلس الجامعة العربية, حيث بدا وكأنه يريد بلوغ البعد الامبراطوري اقتصاديا بعد ما فشل مرارا في تحقيق ذلك البعد الامبراطوري سياسيا.. نعم فشل الأتراك سياسيا لمرات عديدة فيما تصوروه مجالا حيويا لهم, فقد أخفقوا في العراق( التي دخلوا شمالها في أثناء الغزو 2003 ولكنهم لم يحققوا شيئا بعدما ارتمي الحكم الجديد بقيادة نوري المالكي في أحضان إيران, وفشل الأتراك في أن يقتحموا سوريا( عسكريا أو اقتصاديا), ويقوموا بدور مهيمن فيها, أواخر القرن الماضي وكانت مصر سببا في منع ذلك, كما فشلوا في لم سوريا وإسرائيل في مفاوضات لاستعادة الجولان, ولعل جزءا كبيرا من الغضبة والزرزرة التركية بعد الهجوم علي السفينة( الحرية) حاملة الاغاثات الإنسانية لغزة جاء من شعور أنقرة بالطعنة والخديعة, لأن الهجوم أعقب بثمان وأربعين ساعة فقط اجتماعا لوفد إسرائيلي وآخر تركي لبحث اتفاق تسوية حول الجولان. ........ ولكن تغييرا حادا نشأ حول حركة تركيا إزاء مصر قبيل يناير والربيع العربي, وتواصل حتي الآن محاولا التغلب علي ذلك الفشل السياسي وترجمة الروح الامبراطورية الاقتصادية الي حالة استراتيجية وأمنية راسخة, وهنا وقع الإخوان في سلسلة من الأخطاء سوف نستعرضها في المقال المقبل بإذن الله تعالي. المزيد من مقالات د. عمرو عبد السميع