إنه لاختبار عسير لمعدن الرجل أن تصبح له اليد عليا على أعدائه بعد إيذائهم له وتوحشهم عليه. وتاريخ العالم يحتشد بقادة منتصرين أذاقوا أعداءهم الهوان بعد ما استضعفهم أعداؤهم وسعوا في إذلالهم. وكم أراق منتصر بعد ذل من دماء إخراجا لما في صدره من كمد وغل! فهل كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم واحداً من هؤلاء وقد لاقى من تجبر قومه عليه وعلى أصحابه ما يملأ صفحات التاريخ؟ لقد قاطع المشركون المسلمين ثلاث سنين وألزموهم شعب أبي طالب ومنعوا عنهم الطعام والشراب وحرموا على أنفسهم وعلى غيرهم الزواج منهم حتى أكل المسلمون العشب وأوراق الشجر وضاقت عليهم الأرض بما رحبت. وكان أقرب أقرباء النبي – عمه أبو لهب وزوجه- يقذفونه بالحجارة في الطريق حتى ينزف منه الدم الزكي، وكان أبو لهب من القسوة حتى على بنات النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمر ابنيه أن يطلقا ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم زينب وأم كلثوم، بل لم يتورع أبو لهب عن مسبة النبي صلى الله عليه وسلم والسخرية منه ومعايرته بقلة الولد حين مات ابنه عبد الله. وماذا الذي يتوقع من قائد تجهض ابنته وتموت بعد دفعها من قبل مشرك من على الناقة التي كانت تركبها؟ وماذا يصنع ذاك الإنسان الكامل في خلقه وفي هدايته وفي نبوته حين يخرج من عنده أحد كتبة وحيه ليقول للناس إن القرآن مدخول وأن النبي صلى الله عليه وسلم يفتري على الله الكذب؟ وماذا يفعل من تعرض لأقذع الهجاء وأبشع التهم من قبل أعدائه في أشعارهم في بيئة كان الشعر فيها وسيلة الإعلام الأولى لسرعة انتشاره وسهولة حفظه في تلك البيئة التي تعيش ثقافة شفهية شبه كاملة؟ وماذا يصنع قائد يمتلك قوة عسكرية لا تهزم بمقاييس ذلك العصر مع من عذبوا أصحابه بأبشع صنوف العذاب قتلا وحرقا بالنار وجلدا بالسياط وقلعا للأظافر حتى ألجأوه وألجأوهم إلى ترك وطنهم ومغادرته بليل بعد ان أعدوا العدة للإجهاز عليه وقتله؟ لقد كان النبي صلى الله عليه يعلم ما يملأ قلوب قريش من فزع وهم تحت أسنة رماح أصحابه بعد فتحهم مكة وفرائص المشركين ترتعد أمام الجيش المسلم الذي يعهدوا مثله، فهم لم يتصوروا النبوة وحقيقتها وأخلاقها، وأنى لهم ذلك وهم بها كافرون؟ كان النبي صلى الله عليه وسلم يدرك ذلك فبادرهم بالسؤال عما يظنونه فاعلا بهم، فتلمسوا منه العفو وما كان لغيره ولو من عظماء القادة وأمراء الجيوش أن يعفوا وقد أخذت منهم فلذات أكبادهم وأعز أقاربهم وأصحابهم حتى أكلت إحدى لاكت زوج ابي سفيان التي أسلمت بعد ذلك كبد عمه حمزة أسد الله وأسد رسوله تشفيا وإغاظة لقلب حبيب الله صلى الله عليه وسلم، وقتلت أسرة كاملة بما فيها الأم عجوز بعد تعذيبهم أشد العذاب كي يرتدوا عن إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته، ورأى في العديد من أصحابه ما يفتت الاكباد. وما كان لمثل من أرسله الله تعالى للناس رحمة وبه عرفت الفضائل من شفقة وعطف على الكبير والصغير وتسامح في حق نفسه وعدم غضب إلا لمحارم الله عز وجل أن يغلل أو يتشفى أو يطلب حظ نفسه في الانتقام بعد ما هيأ له أعداؤه كل سبيل كي يفعل ذلك. لقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة مطأطئا رأسه حانيا ظهره على فرسه تواضعا لله تعالى مرددا آيات شكره، فيرى الناس أن فيه من السمو ما لم يعهدوه ولم يتصوروه. ولم لا وقد عاد إلى المدينة في صمت قبل ذلك بعامين بعد اتفاق ظاهره ظالم له وللمسلمين ولم تمكنه قريش من دخول المسجد الحرام حتى حارت عقول ألصق أصحابه به في ذلك وتساءلوا في غضب: علام نعطي الدنية في ديننا؟! ليقول صلى الله عليه وسلم في بساطة الواثق من ربه المتحقق بالافتقار والاتضاع لجنابه تعالى: إني عبد الله ولن يضيعني. انظر إلى كلام النبوة وما فيه من عرو عن التكلف مع ما كان عليه أكثر أهل بادية العرب من الغلظة حتى توعد شاعرهم من يجهل عليه لا بالحلم بل بجهل أكبر. عجيب من هؤلاء الذين ينظرون في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يريدون أن يبصروا ما لا يستطيعون أن يوفقوا بينه وبين مفاهيم وضعية اتخذوها لأنفسهم دينا دون أن يفهموا شخص النبي صلى الله عليه وسلم في كليته؟ فأي دموية تلك التي ينسبونها لرجل كان يمكن أن يريق في قريش الدماء أنهارا إذا أراد وكان له العذر في ذلك؟ إنهم يقتنصون من السيرة ما يريدون تطويعه لأحكام عقولهم الضعيفة وأنظارهم الكليلة، بل يلتمسون لفعل النبي صلى الله عليه وسلم أسوأ التأويلات حتى لتقطر أفواههم سما وحقدا على حبيب ربه صلوات الله عليه. هذا ابن أبي سرح الذي كان كاتبا لوحيه وارتد عنه وافترى عليه يضمنه عثمان بن عفان فيتنازل النبي صلى الله عليه وسلم عن حقه ويقبله تائبا آيبا وهو – أي ابن سرح- الذي ما جرؤ على البقاء في مكة حين دخلها الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم فخرج منها هائما على وجهه. وهذا أبو سفيان زعيم الحرب عليه والساعي مرة بعد مرة لوأد دعوته يأتيه في هزيمته ومذلته ويقول له ما زال في نفسي شيء من نبوتك فلا يزداد معه إلا حلما وكرما فيعلن أن من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن. وهذا صفوان بن أمية يتيقن أنه هالك على أيدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرر الهرب إلى جدة ومنها إلى اليمين فيشق علي قريبه عمير بن وهب ويذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه الامان له فيؤمنه حضرة المختار ويعطيه عمامته ليرها لصفوان أمارة على ذلك فيسرع عمير إلى صفوان يبلغه بأمان ذي الخلق العظيم فلا يكاد يصدق، ثم يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيطلب منه أن يمهله شهرين ليسلم أو يبقى على كفره فيقول له الرحمة المهداة: أنت في الخيار أربعة أشهر!! ثم يسلم مختارا لينال شرف مقام الصحبة. كيف يتقولون عليك يا رسول الله صلى الله عليك وسلم وصاحبك سعد بن عبادة يقول لأبي سفيان وهم على أبواب مكة: اليوم يوم الملحمة، اليوم تسترد الكعبة، فتبادره قائلا: بل اليوم يوم المرحمة، اليوم يعظم الله الكعبة. إن من ينظر في سيرة الحبيب فيعترضه ما لا يفهم فليعد إلى تلك الصفحات التي لا يمكن ان يلتبس على ذي نظر سليم منها شيء وليجمع بينها وبين ما اشتبه عليه. ولن يملك ذو منطق إلا أن يقول إن القسوة المزعومة التي ينسبها للنبي صلى الله عليه وسلم أقوام لم يرد الله أن يهديهم لا تتفق مطلقا مع مشهد الفتح الكبير الذي يستحق أن يسمى بمشهد العفو الكبير بل هو مشهد العفو الأعظم في تاريخ البشرية، ولابد أن لشخصية بهذه العظمة منطقها فيما يتوهم بعض الناس إنه مما يخالف الرحمة أو العفو اللائق بمثله. وهذا حق من كان مثله وإن لم يكن نبيا، فكيف وهو سيد الأنبياء الموصوف باستوائه على الخلق العظيم من قبل رب العالمين. إن الإسلام ونبي الإسلام لا يوزنان بموازين وضعية قاصرة ومتغيرة، بل حق العقل إن لم يكن ظالما لنفسه أن يخضع للنبي صلى الله عليه وسلم وأن يطوع نفسه لفهم حكمه وحكمته، لا أن يتصور أهل الغرور أن علمهم بظاهر الحياة الدنيا يكفيهم في الحكم على حامل ثقل الوحي صلى الله عليه وآله وصحبه. وإذا كان هذا العقل لا يبلغ بغرقه في ظواهر الحياة الدنيا أن يحكم على الربانيين من عباد الله الصالحين والأولياء المتقين من أتباع أتباع حضرة الحبيب لخروج ولايتهم وكثير من أحوالهم عن طوره وأحكامه التي يستخرجها من ملاحظة عامة الناس وعادتهم، فأنى ثم أنى لهم أن يحكموا على من يقف العقل دون علمه مشدوها ودون خلقه مبهوتا؟