قلنا سابقًا أن الثورات التي لا تملك أجندة عمل يكون على رأسها قضية الإستقلال الوطني، تصبح مطية يسهل على الأعداء استغلالها وتوظيفها لصالحهم.. وقلنا أن الثورات التي بلا قائد وبلا خطط مستقبلية وتنساب فيها الأحداث بطريقة عفوية ستؤدي إلي خراب حتمي، حتى وإن صلٌحت نوايا المضحين فيها.. وقلنا أن ما يلمع ليس بالضرورة ذهب، وأن من يرفع شعار الحرية والثورية، ليس بالضرورة حر وثوري، وأن كل إحتلال مرّ إلي بلادنا العربية في العصر الحديث روّج لنفسه بالشعارات، بداية من حماية الأقليات وانتهاءا بنشر الديمقراطية ودعم الثورات. لكن الكلام حينها بدا صعبا على الفهم، فكان درس ليبيا القاسي… في فبراير 2011 انفجرت مظاهرات محدودة في مناطق مختلفة بليبيا بطريقة أثارت عدد من علامات الإستفهام، ثم وقعت أحداث عنف استخدم فيها "الثوار" السلاح وبادلتهم قوات الشرطة والجيش الرد، ونتيجة للحالة الثورية التي كان يعيشها الوطن العربي تلقّى هؤلاء الدعم، وهللت وسائل الإعلام تتقدمهم "الجزيرة" القطرية لهم.. وتم الحشد خلف "الثوار" وتم رفعهم إلي مراتب عليا، وتم إستخدام صور قتلاهم ومصابيهم لحشد الأنصار، وخلق مناحات، وبهذا أصبحت الأرض ممهدة لأن يقبل المواطن العربي ما كان من المحرم قبوله سلفا وهو تدخل حلف الشيطان "الناتو" ليدك جيش ليبيا، ويهدم الدولة الوطنية، وينهب خيرات البلاد. استغل شيوخ الفتنة من الإخوان وغيرهم الدين لتبرير الأمر، ولسنا مزايدين أو مهوّلين حين نقول أن مسألة مساندة قادة الإخوان للصهاينة والأمريكان في حالة حربهم مع الجيوش العربية، حقيقية دامغة.. فهم يرون أن إسرائيل والغرب "يهود ونصارى"، أما الجنود والضباط العرب فهم مسلمون ارتدوا عن دينهم بمساندتهم ل"الطغاة".. وأهل الكتاب أقرب للمؤمنين من المسلمين المرتدين (هكذا يفسرون الأمر ليصبح شرعيًا ومخالفته تصير خروجًا عن صحيح العقيدة).. وهو ما اعتمدوا عليه حين برروا تأييد الحزب الإسلامي "التابع للاخوان" للغزو الأمريكي بالعراق، ومشاركته في اول حكومة أسسها "بريمر" بعد سقوط بغداد، وهو نفس ما اعتمدوا عليه لتبرير قصف الناتو لليبيا، وقصف الصهاينة لسوريا. مساندة ليبيا ورفض قصفها لم يكن بدافع انها دولة عربية إسلامية فقط، وإنما كان أيضا بدافع حماية الأمن القومي المصري، فانهيار الدولة بليبيا سيعني إنتشارا للمليشيات مما يهدد الحدود الغربية لمصر، هذا إلي جانب أن انهيار الإقتصاد الليبي سيؤثر على عشرات الألاف من المصريين العاملين هناك. مضت الأيام.. وأعمت مزاعم الثورية العيون عن رؤية الخطر.. وسقطت ليبيا كما سقطت قبلها العراق.. وأصبحت لدى مصر بلد على حدودها تعج بالفوضى وينتشر فيها السلاح، وتسيطر عليها جماعات متطرفة. الصورة التي تنقلها وسائل الإعلام التي أفاقت من غيبوبتها لليبيا اليوم، ليست من صنع معارضي تدخل الناتو وانهيار الدولة، ولكنها الواقع، ولا يروج لها معارضو "17 فبراير" وحدهم ليثبتوا أنهم كانوا محقين في تحذيرهم، وإنما تثبتها أيضا تصريحات معارضين سابقين للراحل "معمر القذافي"، مثل الصحفي محمود شمام الذي تولّى منصب مسؤول الإعلام بالمكتب التنفيذي التابع للمجلس الوطني الانتقالي بعد استشهاد القذافي، واستقرار الأمر لمصطفى عبدالجليل وعبدالكريم بلحاج ورفاقهم. حيث يقرّ بأن ليبيا قد تحولت إلي صومال خمس نجوم… ويوضح في إجابته على سؤال وجه له من "الشرق الأوسط" منذ يومين قائلا – والجواب بتصرّف بهدف الإختصار-: "توجد ميليشيات قوية في ليبيا تمثل خطرًا على الجميع، فهناك "الزنتان" التى لديها من ثلاث إلى أربع ميليشيات، وهى ميليشيات قوية ومسلحة تسليحًا جيدًا، وهى قوة لا يمكن إنكارها فى غرب طرابلس، وتوجد كذلك قوة فى "الزاوية".. ثم نجد أيضًا هناك ما يسمى "ميليشيات طرابلس"، وهى فى معظمها ميليشيات أمنية، مثل "النواصى"، و"اللجنة الأمنية العليا"، (وأنا أعدّها ميليشيا وليست جسمًا يتبع السلطة)، ثم هناك ميليشيا "مهيتيقة"، وهى مجموعة (عبد الحكيم بلحاج)، وهى متمركزة ولها امتدادات وهى مؤدلجة، وكلها تتبع تيارًا إسلامويًّا متدرج الشكل، وأحيانًا تتفق مع جماعة الإخوان وأحيانًا تكون الخلافات بينهم، ثم داخل طرابلس هناك الكثير من المنظمات غير الشرعية التى تتاجر فى المخدرات وتتاجر فى الخمور وغيرها، ولديها قوة عسكرية ظاهرة. ثم تأتى مصراتة (إلى الشرق قليلا من طرابلس) كثقل كبير جدًّا، وربما هى أقوى الميليشيات.. وتوجد فيها أكثر من مئة ميليشيا، وفى سرت هناك وجود للجماعات الإسلامية المتطرفة، وأيضًا هناك كتيبة صلاح بوحليقة، ثم المجموعات المسلحة التابعة ل السيد الحضران (أحد الداعين إلى الفيدرالية فى الشرق)، الذى يسيطر على منابع النفط، ثم أيضًا هناك الميليشيات التى تحاصر بنغازى وهى ميليشيات "أنصار الشرعية و17أكتوبر وراف الله السحاتى"، ثم نأتى إلى درنة التى يسيطر عليها سفيان جومة الموالي لتنظيم القاعدة ، وجماعة الجهاديين، وبالتالى فهذا هو التنوع الكبير والخطير فى هذه الميليشيات". إلي هنا انتهى كلام محمود الشمام… وإلي هذا انتهى حال ليبيا، التي تحولت إلي قنبلة تهدد أمن مصر وتونس، كما تحولت إلي عبرة لعلّ من لا يدركون أهمية بقاء الدولة بمؤسساتها الوطنية يعتبرون بها.