صالح عبدون: على الباحث عن مباهج جديدة أن ينصت لأي مقطوعة موسيقية تصادفه صدر حديثًا، كتاب «الثقافة الموسيقية»، تأليف الصاغ صالح عبدون، بمراجعة وتقديم الدكتور محمود أحمد الحنفي، وغلاف الدكتور خالد سرور، ضمن إصدارات الهيئة العامة لقصور الثقافة. ليتضمن باقة متعددة الألوان جمعت أزاهيرها من مختلف العلوم الموسيقية، ويعرض للقارئ بحثًا طريفًا في فلسفة الفنون وأثرها في الثقافة والجمال، ومميزاتها وإمكانياتها. جاء الكتاب في 20 بابًا، ناقشت- بجانب فلسفة الفنون- هواية الموسيقى من خلال الأسباب التي تجعل الإنسان يتعلق بها، كما عالج الاستماع في شتى صوره وتباين أنواعه، وتعرض أيضًا لموضوع بناء الموسيقى، وانتقل إلى الآلات الموسيقية وبين أقسامها، موضحًا أهمية كل منها في الفرقة الموسيقية، بالإضافة إلى الحديث عن قيادة الفرق وعصا المايسترو. وانتقل بعد ذلك إلى التأليف الموسيقي، في مختلف صياغاته آلية كانت أم غنائية، مع بيان مجمل عن أنواع الفرق الموسيقية، وطاف حول الأغاني الشعبية ونشأة المسرحيات الغنائية والتعريف بمناطق الأصوات البشرية، ورقصات الباليه ونشأتها وأنواعها، ومراحل التطور الموسيقي في أوروبا في شتى صوره وألوانه، ثم تحدث عن طائفة كبيرة من أعلام الموسيقى في مختلف العصور. وانتهى الكتاب ببحث في آداب الاستماع، كما ذيله بمعجم جدولي عن الأعلام التي وردت في الكتاب مع بيانات توضيحية مقارنة. وفي أول أبواب «الثقافة الموسيقية»، أوضح المؤلف أن الفنون الجميلة تقوم على أساس محاولة اكتشاف نواحي الجمال في حياتنا وإبرازها في صورة محسوسة بوسائل خاصة، كالموسيقى والنحت والتصوير والأدب، لجلب السرور بما يشبع حاسة الجمال فينا. مؤكدًا أنه من الطبيعي أن يوجد أشخاص ليست لديهم القدرة على إدراك النسب في تكوين الأشياء، فطالما أن هناك أشخاص مصابون بعمى الألوان، فإنه ليس من الغريب أن يوجد غيرهم مصابون بعمى الشكل والسطح والكتلة. جاء ذلك كتمهيد قبل أن يعرف الجمال من خلال استناده إلى كتابات مدارس فلسفية مختلفة، منها سبينوزا وكانت، ثم انتقل إلى جمال الموسيقى، مؤكدًا أن محب الموسيقى كلما زادت خبرته بها كلما زاد احتمال صحة تقديره لجمالها أو قبحها، ومن غير المستساغ أن ينظر الإنسان إلى الموسيقى كموضوع ذوق لا أكثر، وكأنه يحكم على مدى جمال أحد الأزياء. "لماذا نحب الموسيقى؟"، هكذا بدأ ثاني أبواب الكتاب بعنوان«هواية الموسيقى»، ليجيب عليه أولًا من الناحية المعنوية، فيقول عنها: يبدو أننا موهوبون بنوع من الميكانيكا يجعلنا نستجيب للأصوات دون مجهود إرادي من جانبنا، وهذه الميكانيكا لا تتضمن فقط الجهاز العصبي المركزي، الذي ينظم حركات عضلات الجسم وواجبات الأعضاء الداخلية، ولكنها تتعداه إلى الجهاز العصبي السمبثاوي، المنظم لمراكز الانفعالات والعواطف وسائر المعنويات. وصنف في الفصل الثالث المستمع، على 4 أنواع، بحسب تقسيم علماء النفس على حسب تأثرهم بالموسيقى، فكان النوع الأول هو المندمج كليًا مع المؤلف بحواسه وجوارحه ومعنوياته، والثاني من لديه الموسيقى مجرد مؤثر يثير بعض أنغامه أو ألحانه أو إيقاعه ذكريات معينة لأحداث أو لأشخاص أو زمان أو مكان، وهذا لا يحفل كثيرًا بالموسيقى، والثالث هو من يتمتع بالموسيقى للموسيقى نفسها، دون أي اعتبار آخر سواء داخلي أو خارجيفيعطي الأهمية إلة تقدير قيمتها من الناحية الفنية البحتة. أما النوع الرابع والأخير، فلا يذهب إلى أبعد من تشخيص طابعها إذا كانت مرحة أو محزنة، خفيفة أو ثقيلة وما شابه ذلك، وهذا النوع لا يستند إلى كثير من المعرفة والتمييز بالدرجة التي يترتب عليها الكثير من الفائدة والمتعة. مؤكدًا أن المستمع قد يتأثر بجميع هذه الطرق الأربع طبقًا لمزاجه ونظرته ونوع الموسيقى التي يسمعها. لعل من أهم أجزاء الكتاب وأصغرها كان الباب الثامن، الذي تناول في 3 صفحات توضيح الفارق ما بين "الموسيقى المقيدة بموضوع والموسيقى البحتة"، وتذهب الأولى إلى تصوي موضوع معين فيساير مختلف مواقفه ولا يحيد عنه، وما على المؤلف فيها سوى أن يخرج صوره وتعابيره في قالب موسيقي وفير يتمكن به من التصوير أو القصص كما يريد. أما الموسيقى البحتة التي لا ترتبط بأي شئ خارجها، ولا يدل على شئ ملموس، فلا تستند إلى موضوع أدبي أو قصة بقدر ما يستند إلى قوانين تكوين الموسيقى وإحساسات مؤلفها وما تثير من مشاعر. كما أن المطلوب من المقطوعة الموسيقية البحتة هو تسلسل أجزائها بنظام منطقي وارتباط قوي ينتهي بها إلى عمل متماسك الأجزاء بدرجة عالية من المنطق الواضح والجودة الفنية والتعبير. وتجدر الإشارة في هذا الموضع أن المؤلف خصص الباب العاشر بفصوله الثلاثة للحدث عن صيغ الموسيقى البحتة "غنائية، غنائية آلية، آلية". وقدم "عبدون" أمثلة للموسيقى المقيدة بموضوع، ومنها: "مساخر اويلنشبيجل المرحة" لريتشارد شتراوس، و"المقدمات" لفرانس ليست، و"السيمفونية السادسة" لتشايكوفسكي، و"شهر زاد" لرمسكي كورساكوف، و"السيمفونية الأولى" لبرامس، و"المارش الجنائزي لسيجفريد" لفاجنر، و"رقص المقابر" لسان سانس. واختتم كتابه قائلًا: «إذا أحب الإنسان بعض المقطوعات أو نوعًا من المؤلفات، فإنه يميل أحيانًا إلى القناعة بها ولا يهتم بغيرها، فلا يعود عليه هذا الحب إلا بالحرمان، لأن عالم الموسيقى مملوء بالمباهج التي لا يتسع العمر لاستيعاب جميعها. وعلى من يريد دوام اكتشاف مباهج جديدة، أن ينصت باهتمام لأي مقطوعة موسيقية تصادفه، ولا يتعجل بالحكم عليها، وهذا هو الطريق إلى الثقافة الصحيحة والذوق السليم».