نحو عقل مؤيد 1. تعريف العقل لا يقف طه عبد الرحمن كثيرا عند التعريفات النظرية للعقل، وفي الحالات النادرة التي يلتفت إليها لا نجده يقاربها مقاربة نظرية، بقدر ما يفككها على ضوء الفعالية العملية التي تصدر منه، إنه لا يجدي بناء أنساق فكرية نظرية للعقل، وإنما الأهم هو التحقق من قدرتها على الإسهام في بلورة كينونة إنسانية عاملة مبدعة وخلاقة. وبهذا نكون أمام التعريف الطهائي للعقل إزاء تطبيق عملي لمقتضيات المجال التداولي، الذي يحتل فيه "العمل" أو الوصل بين القول والفعل بؤرة مركزية، يقول طه عبد الرحمن ناعيا الانسلاخ عن الخصوصية والانجراف مع مجالات تداولية مغايرة في تعريف العقل " لقد تعددت هذه المعاني [معاني العقل] في التراث المعرفي العربي تعددا فاحشا و تباينت تباينا شنيعا كان الأصل فيها النقل الآلي لمعاني مقابلاته من اللغات الأجنبية، قديمها (اليونانية و اللاتينية و السريانية و الفارسية و العبرية ) و حديثها (الفرنسية و الإنجليزية و الألمانية") (1). إن طه عبد الرحمن عندما يعرف مفهوم العقل يستحضر محددين؛ الأول ضرورة مراعاة ما به قوام هذا المجال التداولي، الثاني، الانطلاق من قاعدة لغوية أصيلة، بحيث تُربط الدلالة الاصطلاحية للعقل بالحمولة اللغوية للمفهوم. إن المجال التداولي الإسلامي يتحدد من خلال ثلاثة مبادئ أساسية، الأول تقديم العمل على العلم، بحيث يكون العلم الذي لا عمل فيه مجرد لغو لا طائل منه، والثاني عدم اتخاذ العلم كترف، بحيث يجوز الاستزادة منه دون أن يقترن بالعمل، إنه لابد من استعمال العلم، أي المساوقة بين العلم والعمل كتوأمين متلازمين. والثالث ضرورة انتقاء العلم المثمر، فلا يطلب ولا تشرئب الأعناق إلا إلى العلوم النافعة التي يرجى منها خير، يقول طه عبد الرحمن في جُماع هذه المبادئ : "يأخذ هذا المجال بمبادئ أساسية تحدد العلاقة بين العلم والعمل، أحدهما : مبدأ تقديم اعتبار العمل، و يقضي بأن كل مسألة لا يترتب عليها عمل لا فائدة منها ولا حاجة للبحث فيها، بل يقضي بأن كل كلام ليس تحته عمل، يجب تركه، والثاني مبدأ العلم المستعمل، ويقضي بأن لا يتعلم المرء من العلم إلا ما يعمل به، ولا يندفع في الاستزادة منه، حتى يعمل بما حصل منه، بل عليه أن يقتصر منه على القدر الذي يعرف به العمل، والثالث مبدأ العلم النافع ويقضي بأن لا يتعاطى المرء إلا العلم الذي إذا عمل به، لا تقتصر ثماره على عاجله، بل تتعداه إلى آجله، ولا تقتصر على ذاته، وإنما تتعداه إلى غيره" (2). ويبدو أن هذه الشروط لا تتوفر إلى في العلم الشرعي، فهو العلم النافع المستعمل والذي يمتاز عليه العمل، بحيث يكون العلم مجرد بوابة مؤدية إليه، فهذا العلم ليس غاية في ذاته وإنما يراد من أجل العمل. من هنا فإن العقل ومراتبه ستقيم وتعرف على ضوء المواقف التي يتخذها من العمل الشرعي كما سنرى. إن طه عبد الرحمن ينطلق في تعريفه للعقل من الدلالات الأصيلة التي يؤديها المفهوم في اللغة العربية، وهكذا فنحن أمام تطبيق عملي لفكرة طالما أكد عليها فيلسوفنا، وهي اشتراط الأخذ بالمبادرة الفلسفية التي تعي ضرورة استحضار قواعد المجال التداولي، والتي تشكل فيها القاعدة اللغوية إحدى الروافد المهمة. إن العرب يستعملون العقل في سياق حديثهم عن الدابة فيقولون "عقل الدابة" أي قيدها، فالعقل يؤدي معنى التقييد، وهذا الأخير كذلك يستعمل للدلالة على ثلاثة معاني متقاربة، سيجمع طه عبد الرحمن بينها من أجل الخروج بتعريف هو بمثابة عصارة امتزاج الدلالات اللغوية مع الدلالة الاصطلاحية الغربية، إن هذه العملية الفكرية هذه التي يسميها طه عبد الرحمن "التقريب"، أي جعل فكر الآخر كأنه أصيل وغير مستورد وذلك بأن يبصم بمعالم الذات. وهذه الدلالات الثلاث للتقييد هي "الكف" و"الضبط" و"الجمع". أما التقييد بمعنى الكف فيقصد به "الفعل الذي يجعل الإنسان يكف عن الخطأ في القول والشر في الفعل" (3)، والتقييد بمعنى الضبط فيعني أن العقل يمنع ما يُحَصله الإنسان من الانفلات والنسيان، فالفاعلية العقلية من مهامها التي تقوم بها ضبط المدركات والحيلولة دون نسيانها، وأما التقييد بمعنى الجمع، فمعناه وعي الإنسان بما وصله كما يعي الإناء ما يوضع فيه. ثم يلاحظ طه عبد الرحمن أنه على الرغم من وجود بعض الفوارق الدلالية بين الألفاظ الثلاثة إلا أنها تشترك في معنى "الربط"، فالكف ربط مانع، أي يمنع المرء من الوقوع في الزلل النظري والعملي، والضبط ربط ماسك، أي أن العقل يمسك مدركاته ويمنعها من الانفلات، والجمع ربط واصل، أي أن العقل يصل ما يعقله ويعيه، وهكذا فالعقل ينسج شبكة من الارتباطات، و مادام الربط بين الأشياء يعني إدراك تلك العلاقات الكامنة بينها، فيكون العقل حسب طه عبد الرحمن هو "إدراك الإنسان للعلاقات القائمة بين الأشياء" (4)، وتبعا للرؤية الكينونية (الأنطلوجية) للعقل في الفكر الطهائي، التي ترى بأن القلب هو المسؤول عن التعقل فإنه سيضيف هذا المحدد في موضع آخر من التعريف، فيقول في الصيغة النهائية لتعريف لعقل بأنه "إدراك القلب للعلاقات القائمة بين الأشياء" (5). 2. هرم العقل ليس العقل في فلسفة طه عبد الرحمن مرتبة واحدة، وإنما هو مراتب متباينة متعددة، تختلف باختلاف المواقف الذي تتخذه اتجاه العمل الشرعي، وهكذا فنحن إزاء الفلسفة الطهائية أمام سلم عقلي يضم ثلاث درجات، درجة العقل المجرد، العقل المسدد، والعقل المؤيد. وقبل أن نفصل في هذه المراتب العقلية ونكشف عن آفات كل منهم وكمالاته، لابد أن نعرج على مسألة متعلقة بتناول طه عبد الرحمن لموضوع مراتب العقل هذه؛ إنه في اعتقادنا لا يمكن أن نخلص إلى فهم واضح وكامل لهرمية العقل في هذه الفلسفة إذا لم نربط بين كل ما ذكره طه عبد الرحمن ونجمع بينه في سياق البحث عن الرؤية التكاملية؛ فالناظر مثلا في كتاب "العمل الديني وتجديد العقل" سيجد بسطا وافيا لمراتب هذه العقول، لكنه لا يجد ذكرا للمعايير التي أقام عليها قراءته هذه، وإنما نجدها في كتابه "سؤال الأخلاق"، من هنا فنحن سنحاول أن نقدم قراءتنا في مراتب العقول من خلال التنسيق بين ما ذكره طه عبد الرحمن في الكتابين. لقد أشرنا عند بسطنا الكلام حول نقد طه عبد الرحمن للعقل الغربي إلى المعايير التي اتكأ إليها، وهي معيار الفاعلية أو النجوع في الوسائل، ومعيار التقويم أو النفع في المقاصد، ومعيار التكامل أي انسجام المعيارين السابقين. وطه عبد الرحمن في مقاربته لمراتب العقل سينظر إلى الإشكالية على ضوء هذه المعايير، مع استحضار محدد آخر؛ ألا وهو موقفه من الشرع والعمل. فأحط مراتب العقل، هو ذلك الذي لا يوفي شيئا من شروط هذه المعايير، ولا يقيم وزنا للعمل في الغالب، ويسميه طه عبد الرحمن "العقل المجرد". فهذا العقل يأبى الرجوع إلى أصله الذي خلق عليه، إنه عقل مجرد بمعنى "منقطع عن العمل الشرعي" (6). وإذا كنا قد أشرنا إلى نقد طه عبد الرحمن للعقل الغربي وهو يندرج تحت النقد العام للعقل المجرد، أي حدوده العامة، فإننا الآن سننظر في حدوده الخاصة، والمقصود بهذه الآخرة الآفات التي تسبب فيها الأخذ بالتعقل المجرد داخل الفكر الإسلامي. إن طه عبد الرحمن يرى أن حدود العقل المجرد وآفاته لا تنكشف في مجال معرفي انكشافه في مبحث الإلهيات، فإغفاله للعمل الشرعي و توسله بالعقل النظري قد جعله يقع في عدة آفات حالت بينه وبين مقصده المتمثل في التقرب إلى الله تعالى. وذلك أن توسلهم باللغة أوقعهم فيما يسميه طه عبد الرحمن "الوصف الرمزي" (7)؛ إن اللغة نسق من الرموز فهي لا تؤدي وظيفة التبليغ على أحسن وجه في العالم المادي الملموس والمحسوس، فما ظنك بالقضايا الميتافيزيقية، وعلى رأسها الوجود الإلهي، إن "كل ما يمكن أن ينقله النظر من خلال الرموز اللغوية لا يتعدى أن يكون تصورات لأعيان خارجية ليس بينها وبين هذه الرموز أي تقابل يختص فيه كل رمز لغوي بالدلالة على عين خارجة واحدة" (8)، وهكذا فعالم الوجود مستقل عن النسق اللغوي استقلالا تاما، ولما كانت المقاربة المجردة للإلهيات تتوسل باللغة فقد كانت بعيدة عن الوفاء بمطلب المعرفة الإلهية من خلال التحقق العياني لا الذهني الذي يبقى حبيس الرموز والأنساق العبارية. والآفة الثانية، الوقوع في الوصف الظني، فاستدلالات العقل المجرد على الوجود الإلهي لا تبرح مرتبة الظن ولا ترقى إلى اليقين، إن "أدلتهم تقع فيما يخرج صورتها عن صورة البرهان، فالتصورات التي تقوم عليها معالمها غير محددة، وطريقة تحصيلها غير مضبوطة، وصفتها الإجرائية غير معلومة" (9)، و يعضد طه عبد الرحمن ما ذهب إليه من خلال النظر إلى تنوع هذه الأدلة، فهذا التنوع ينطوي على ابتغاء درء آفة الظن وبلوغ مرتبة اليقين بتعديد الأدلة التي لا تشفي ولا تكفي بمفردها. و الآفة الثالثة هي الوقوع في التشبيه؛ إن أي مقاربة عقلية-لغوية لشيء ما غائب عن الأنظار ومنتم لعالم الغيب لابد أن يقع في آفة التشبيه، وذلك لأن هذه المقاربة لابد أن تتوسل بآلية القياس، ومعلوم أن هذه الأخيرة تسقط حقائق مشاهدة على الحقائق المغيبة، حتى يتسنى للعقل استيعاب هذا الغيب وإلا ظل مجهولا، وهنا ينكشف لنا القصور في المقاربة النظرية للمبحث الإلهي إذ أنهم "أحبوا أم كرهوا واقعون في التشبيه بصنفيه : التشبيه الاضطراري الذي لا تنفعهم معه حيلة، للميل الطبيعي للعقل النظري إلى القياس على المعلوم من الأشياء، والتشبيه الاختياري الذي يسوقهم إلى الخوض المتكلف و الشنيع في حقائق لطيفة تستلزم من الأدب والتعظيم ما لا يطيقه العقل المجرد" (10). نخلص إلى أن العقل المجرد، إذ ينقطع عن العمل الشرعي الذي يوسع من آفاق العقل ويقوي قدراته، وبرفضه للحالة الفطرية التي خلق عليها، لا يتوسل بوسائل نافعة ولا يبلغ مقاصد نافعة، كما أنه في الفكر الإسلامي يعجز هذا العقل عن مقاربة الوجود الإلهي مقاربة يقينية، بسبب توسله بالنظر المجرد واللغة، يقول طه عبد الرحمن في هذا العقل أنه "لا يحصل له اليقين لا في مقاصد أعماله من حيث نفعها، ولا في وسائله من حيث نجوعها" (11). و على طرف نقيض هذا العقل المجرد، نجد أن العقلانية غير المجردة تنقسم إلى قسمين "العقلانية الغير المجردة القادرة على إدراك المعاني الثابتة والشاملة" و"العقلانية غير المحردة القادرة على إدراك الوجوه المتغيرة والخاصة" (12)، فالأولى هي التي يسميها طه عبد الرحمن " العقل المسدد"، فهو عقل مشتغل لا ينفصل عن العمل الشرعي، ويبدو أن طه عبد الرحمن يطلق هذا العقل على الديانيين من سلفيين وفقهيين، يتبين لنا هذا باتضاح عندما ينتقد آفات هذا العقل من خلال الوقوف على آفتي التفقيه والتسلف. يقول طه عبد الرحمن في تعريف العقل المسدد بأنه "عبارة عن الفعل الذي يبتغي به صاحبه جلب منفعة أو دفع مضرة، متوسلا في ذلك بإقامة الأعمال التي فرضها الشرع" (13)، وعند تفكيك هذا التعريف نجد أن لهذا العقل ثلاثة مزايا، الأولى اشتراط موافقة الشرع وهي التي تقي من سوء التوجيه، فالعقل الذي يستوحي قيما أخرى غير موافقة للشرع لا يأمن أن يقع في نقيض مقصده من حيث أنه ينوي الصلاح والفلاح، وهذا الذي حصل في العالم الغربي، فالإنسان الغربي كان يمني نفسه بالمستقبل الزاهي، لكنه وجد نفسه يتمرغ في جملة من الآفات التي نجمت عن الأخذ بما يسمى في أدبيات مدرسة فرانكفورت "العقل الأداتي". أما المزايا الأخرى، فيقول عنها طه عبد الرحمن "وركن اجتلاب المنفعة الذي ينبني على القيم المعنوية، ويتطلب بعد النظر، ونزاهة النفس، وركن الاشتغال الذي يفيد في تجسيد العمل، وفي رفع قيمة العمل المقترن به، وفي توسيع المدارك، وفي تصحيح السلوك أصلا ومقصدا ووسيلة". لكن يبدو واضحا أن هذا العقل على الرغم من مزاياه هذه فإنه لا يرعى شرط نجوع الوسائل، من هنا فهو يقع في آفات تتوزع بين الممارستين الفقهية والسلفية. إن من شرط نجوع الوسائل تعددها وتنوعها، أما الممارسة الفقهية السلفية فترى أن هذا التنوع قد يكون من مداخل الوقوع في البدعة، من هنا الوقوع في آفة التقليد، ويقسمه طه عبد الرحمن إلى ثلاثة أقسام التقليدي النظري والاتفاقي والعادي، كما أن الممارسة الفقهية التي لم تعر اهتماما كبيرا للفقه القلبي والأخذ بالقيم والمعاني الروحية التي تؤطر السلوك الإنساني، وقعت في آفة التظاهر وهي وجود "تفاوت في الأعمال بين واقع الاشتغال وبين المقاصد المتوخاة من هذه الأعمال" (14)، وهذا التظاهر يتخذ شكل "تزلف" أو "تكلف" أو "تصرف" (15). و أما الآفات العملية للممارسة السلفية فقد كانت نتيجة للإخلال بمقومين ضروريين في التسديد العملي وهما "أن تكون الممارسة السياسية مبنية على الممارسة القربانية" و " أن تكون الممارسة النظرية غير منفكة عن الممارسة القربانية"، أما المقوم الأول فمقتضاه الأخذ بالقيم الأخلاقية التي توجه العمل السياسي ويحتكم إليها، وذلك لتجنب الأخذ بالأخلاق الميكيافيلية التي تتوسل كل السبل، شرعية كانت أو غير شرعية، والمقوم الثاني مقتضاه تغليب البعد العملي على البعد النظري المجرد، وهذا انسجاما مع المجال التجاولي الإسلامي. غير أن الممارسة السلفية أخلت بالتسديد العقلي، عندما عملت بنقيضهما، فوقعت في "التجريد" و "التسييس"، فأما التجريد فيقصد به طه عبد الرحمن "إفراد الفعل العقلي النظري بالقدرة على التأمل في النصوص" (16)، والفكر السلفي بنظره إلى النصوص الدينية من خلال العقل يكون قد تقهقر رتبة إلى الوراء واستحال عقلا مجردا، إذا أن العقل إنما يتسدد بالعمل الشرعي الذي يوفق الإنسان ويرشده للحق. و الآفة الثانية هي التسييس، فالحركات السلفية جعلت من السياسة مدخلا للإصلاح الاجتماعي، غير أن إفراد السياسة بمكانة مركزية في الإصلاح لا يأمن معها أن تتدنس القيم التسديدية التي تأخذ بها، ويرى طه عبد الرحمن أن التسييس يوقعنا في الآفات التالية "ترك الأخذ بالمعاني الروحية" و "ترك العمل بالقواعد الأخلاقية" و "ترك الاستقامة". أما العقل المؤيد، فهو العقل الذي استطاع من خلال تغلغله في العمل الشرعي وأخذه بأخلاق الفطرة التي خلق الله الناس عليها أن يتجاوز آفات وحدود العقلين المجرد والمسدد، فهو يراعي شرط النجوع في الوسائل التي يوظفها، والنفع في المقاصد التي يبتغيها، وهذا العقل هو نفسه العقل الصوفي، الذي لا يقف عند ظواهر الأشياء في الماديات المحسوسة، كما أنه يقصد تحقيق الشهود والمعاينة في الغيبيات، وسبيله إلى ذلك العمل الشرعي الذي يجلب التأييد الإلهي. خلاصة كانت فلسفة طه عبد الرحمن ارتدادية وردة فعل على الجو الثقافي الذي طبع الفكر العربي المشحون بالتقليد، إنها لم تكن من جنس رجع الصدى، بل كانت فلسفة اشرأب عنق صاحبها لشق مسار فلسفي آخر يقطع مع عهد التبعية الفكرية ويهفو بها لمعانقة أنوار الإبداع عن طريق انتشال هذا الفكر من نفق التقليد، في هذا السياق ندرك قيمة ملاحمه النقدية، نقد أهم قراءة للعقل العربي، نقد العقل الغربي، نسف دعوى كونية الفلسفة، ضرورة المبادرة الفلسفية، ضرورة الانطلاق من المجال التداولي، إبداع السؤال المسؤول.. إلخ. لقد كانت فلسفة طامحة فعلا، زرعت بذورا قد تزهر ثمارا يانعة إذا وجدت من يسقيها بماء تأملاته، ويستأنف النظر في مضامينها، مستحضرا أهم الانتقادات التي وجهت إليها. ولعل أكبر عقبة تواجه الفلسفة الطهائية تكمن بالضبط في التخفيف من حدة صوريتها وإضفاء مسحة واقعية عليها، لقد كتب العروي يقول وهو يومئ إلى فلسفة طه عبد الرحمن "إن صناعة المنطق تعرقل التوجه إلى الواقع" (17)، وبالفعل فإن فلسفة طه عبد الرحمن ذات طابع منهجي، ويمكن أن نقول أنها لا تنخرط بعنفوان في الواقع، يضيف العروي "هذا النوع من الفحص، ولنسمه مؤقتا منطق المناظرة، لا يفيد أبدا، لأنه يتوجه بالأساس إلى صاحب السؤال ويحاول إسكاته. وهذا ما نلاحظ حولنا. هدف كل نقاش هو إسكات من يكشف عن الواقع لا التحقق من واقعية الواقع" (18). إذا كان الجابري عمل في مشروعه الضخم على إثبات مشروعية المناهج الغربية، وذلك من خلال تنزيلها على تراثنا، والعروي عمل على تيئيسنا من ذواتنا، فإن طه على العكس كرس جهده لإعادة الاعتبار للذات بالاضافة إلى اجتهاده الذي يحسب له في ابتكار مناهج جديدة، لكن يبقى كل فكر ناقصا ما لم يضع النقاط على الحروف كما يقال، لابد أن نضع أيدينا على مكمن الجرح، ونسمي إشكالاتنا بأسمائها من غير مواربة، وبخطاب واقعي صريح.. إضفاء مسحة من الواقعية.. ذلك ما يعوز المشروع الطهائي ! (1) طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة : 1. الفلسفة والترجمة. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء. 1995. ط1. ص173. (2) طه عبد الرحمن، سؤال العمل. ص 14. (3) نفسه، ص 63. (4) نفسه. (5) طه عبد الرحمن، سؤال العمل. ص 73. (6) نفسه، ص 93. (7) طه عبد الرحمن، العمل الديني وتجديد العقل. ص26. (8) نفسه. (9) نفسه، ص38. (10) نفسه. (11) طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق. ص 93. (12) نفسه، ص70. (13) طه عبد الرحمن، العمل الديني وتجديد العقل. ص 58. (14) نفسه، ص 79. (15) انظر التفصيل حول أشكال تجليات التظاهر في "العمل الديني وتجديد العقل" ص 80-81-82. (16) نفسه، ص 99. (17) عبد الله العروي، مفهوم العقل. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء. 2007. ط4. ص 107. (18) نفسه، ص 106. *كاتب مغربي