نقول دائما أن حياة الإنسان قصيرة .. وهي بالفعل قصيرة مهما امتدت . ولأن الحياة قصيرة فان هناك من الظواهر والأحداث ما قد لا تمر بالإنسان سوى مرة واحدة طوال عمره، أو طوال عمره الواعي. من هذه الأحداث ” الثورات”. فنحن لا نشهد ثورة كل يوم أو كل سنة، لنستفيد من أحداثها ونتائجها، ونستخلص منها الدروس لنواجه المستقبل. لكننا في الواقع نفعل ذلك استنادا إلى ما نقله إلينا آخرون عاشوا هذه الفترات وتفاعلوا معها وكتبوا عن أحداثها وقدموا لنا رؤاهم عنها . وأيا كانت تصوراتنا بالتالي عن كل ما يتعلق بهذه الثورات ، فإنها تكون قاصرة وبعيدة عن الواقع الذي تم فعلا.. فليس من عاش الفترة ” الثورة ” كمن قرأ عنها. وتطرح هذه الفكرة مجموعه هامة من الأسئلة بخصوص ثورة 25 يناير. حقا إنها ثورة لم تكتمل بعد. وحقا أن الثوار لم يصلوا للحكم وما زالوا يتقدمون بمطالبهم ويرفعون شعاراتهم ويتحاورون فيما بينهم ومع الآخرين عن أسباب الثورة ومطالبها وشعاراتها والقوى التي قامت بها، وكيف تمت وعن مراحلها ونتائجها.. وعمن يقف معها وعمن يعاديها، وعن مصيرها وغير ذلك من الأسئلة الضرورية والهامة. ولأن مصالح الناس مختلفة وكذا قدراتهم وتصوراتهم خاصة لمصر ولما ينبغي أن تكون عليه ، وللثورة وما أدت إليه، فانه من الطبيعي أن يختلف الناس حول الكثير من القضايا الخاصة بالثورة وخاصة القضايا الاقتصادية . فالشعب – وحتى الثوار أنفسهم – ليسوا في موقف واحد ولا ينظرون دائما من نفس الزاوية. لذلك جزع الكثيرون وخافوا وكثرت شكواهم مما أسموه تردي الأوضاع الاقتصادية بالتحديد. وفي حين كان البعض محقا في تخوفاته حسنة النية، فان البعض الآخر لم يكن كذلك وقام برفع نفس الكلمات والتخوفات بهدف إنهاء الثورة أو الاكتفاء بما تم من نتائج. طبيعي أن الثورة تغير أوضاعا وتستهدف تغيير المزيد، وتكشف عن العديد من المظاهر التي كانت خافية وتبرزها إلى السطح. وطبيعي أن الثورة يصاحبها قدر من عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والأمني.. وإلا لما كانت تستحق هذا الاسم ” ثورة “. لكن هناك فارق كبير بين هذا كله وبين ما شهدناه وما زلنا نشهده من استخدام الكثيرين ” لفزاعة ” تدهور الاقتصاد المصري وانخفاض معدل النمو وتراجع بعض مؤشرات الأداء، وإثارة تساؤلات وبث إشاعات حول انهيار الاقتصاد المصري بسبب الثورة وبسبب استمرار رفع مطالبها التي لم تتحقق بعد. ولأن الإنسان عادة لا يشهد طوال عمره أكثر من ثورة كما قلنا ، فقد يكون مقبولا من الناحية المنطقية أن يصيبه بعض القلق والتخوف لأن هناك مجهولا لا يعلمه ولا يدرك أبعاده، إلا أن هناك فرق كبير بين ذلك القلق المشروع وبين استخدام أسلوب ” الفزاعة” لإثارة الذعر والتخويف والمطالبة بتوقف الثورة في منتصف الطريق. لقد تم التحدث عن أمور تافهة ( كانخفاض الأسعار في البورصة ) على أنها مؤشر خطير يعكس تردي الاقتصاد المصري، ولم يقولوا للناس أن البورصة أشبه ما تكون بنادي للقمار وليس بينها وبين الاقتصاد الحقيقي إلا روابط واهية ،وان عدد الشركات المقيدة بالبورصة لا تمثل أكثر من 2% من إجمالي الشركات القابلة نظريا للتسجيل فيها ، وأن الأجانب هم أكثر المتعاملين في البورصة المصرية وأنهم يملكون الجزء الأكبر من الأوراق المقيدة بها، وأن نشاط البورصة نفسه ليس سوى إجراء عمليات لنقل الملكية على الأسهم والسندات من شخص إلى آخر . وتشمل ” الفزاعات ” أمر آخر شديد السخف ، حيث يخبرنا عنوان احد التقارير بارتفاع أحكام الإفلاس النهائية بنسبة 235 % خلال الشهور الخمسة الأولى من 2011 ، على حين توضح التفاصيل أن عدد هذه الأحكام على مستوى الجمهورية بلغ 57 حكما؟؟؟ نعلم بالفعل أن هناك تكاليف اقتصادية للثورة دفعتها فئات عديدة خاصة من العاملين بقطاع السياحة والأنشطة المرتبطة به، ومن العاملين بقطاع البناء والمقاولات، وبعض الأنشطة الأخرى كالنقل والتجارة الداخلية، والعاملين باليومية في مختلف القطاعات، إلا أننا لا نعلم حقيقة ما يتم ترويجه عن المصانع التي توقفت عن الإنتاج كما يقولون ,ولا نعلم هل كان توقفها بسبب إضرابات العمال أم إضرابات أصحاب المصانع أنفسهم أم بسبب الغياب الأمني. لكل ثورة تكاليف، ولا يمكن اعتبار هذه التكاليف من بين الخسائر. فتاريخ الثورات يبين أن هذه التكاليف قد تشمل تدمير جزء كبير الهياكل الإنتاجية والبنية الأساسية، وهذا ما لم يحدث في ثورة 25 يناير أو بسببها. كما أن المتشائمون والمهولون لا ينظرون إلى بعض النقاط الواضحة عن الآثار الاقتصادية الايجابية للثورة في حد ذاتها. فقد أسقطت الثورة دولة الفساد المؤسسي. وهو فساد كان يحول دون توسع الاستثمار وزيادة الإنتاج والتشغيل ، وقد ظل مناخ الاستثمار في مصر غائما وطاردا للاستثمارات الحقيقية والجيدة لسنوات طويلة كان المستثمرون يضيفون فيها إلى تكاليف مشروعاتهم ما نسبته 15 % لدفع تكاليف الفساد الذي عشش في كل مكان بدرجة لم يتخيلها أحد. من العيب أن نتحدث عن الخسائر المادية أو التكاليف المالية للثورة ، في الوقت ألذي خسر فيه الكثيرون من ثوار 25 يناير أرواحهم وحياتهم وأجزاء غالية من أجسامهم ، ومن العيب أن تنشط الأجهزة التي كانت تصدر بياناتها وإحصاءاتها متأخرة لشهور طويلة ، لتنشر لنا بيانات عن الخسائر بصورة أسبوعية أو شبه أسبوعية. وأخيرا لكل هؤلاء نقول : هل حاول أحدكم إجراء مقارنة عادلة بين ما تحمله الاقتصاد المصري من تكاليف بسبب ثورته التي سوف تفتح لشعبها آفاقا للحرية والعدالة ، وبين ما خسره الاقتصاد المصري بسبب الأزمة الاقتصادية التي يشهدها العالم منذ 2008 ولم يكن لنا في أسبابها لا ناقة ولا جمل؟ وأخيرا ، فكيف يمكن في رأيكم أن نحسب المكاسب التي سوف تعود إلينا من إقامة مجتمع الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، وهل يمكن مقارنة هذه المكاسب بأية تكاليف؟؟ [email protected] 2 يوليو 2011