مشاهد من دفتر الماضي و الأحلام كنت أمشي كل يوم من بيت أسرتي بشارع عبد السلام عارف إلى المعهد الديني وقت دراستي الإعداية والثانوية بالأزهر الشريف ، مرورا بشارع أحمد عرابي ثم ميدان المديرية ، أو شارع إسلام حتى أصل إلى ميدان مولد النبي وصولا إلى شوارع حي مقبل المتشعبة حتى أصل ، إلى ستاد التربية والتعليم الذي يأخذني بسهولة إلى حيث ألقى أصدقائي وزملاء الفتوة ، الذين أذكرهم جيدا ، و أذكر أسماءهم ، وبيانات حياتهم بالتفصيل ، ثم ندخل إلى فناء المعهد لنجد الشيخ محمود حسن – الذي يسكن في حي الجزيرة – شيخ المعهد واقفا بكل حزم وصرامة يعطي التعليمات النهائية للمدرسين الذين يشرفون على انضباط الطابور الصباحي. كان يقول عني دائما أنني الأكثر لمعانا وسط أقراني ، وكنت أدير الإذاعة المدرسية وقتها بشكل شبه يومي ، و أتذكر أنني كنت بالتعاون مع الطالب البارز عبد الرحمن عرفان نجل الطبيب الدكتور محمد عرفان عبد الرحمن – الآن أحد أهم الأئمة و الدعاة في بني سويف الحديثة بعد أن تخرج بامتياز من كلية أصول الدين و أخذ العلم من فضيلة مفتي الديار الدكتور علي جمعة سويفي الأصل و النشأة – في اليوميات الإذاعية ، كان عبد الرحمن – الذي يسكن أمام نادي المعلمين – يكبرني بعامين تقريبا وكان يعرف مواطن موهبتي بالتحديد حتى أنه كان يسند لي بشكل مبدأي فقرة قراءة الحكمة باللغة الإنجليزية والتي كانت ترهقني كثيرا في الإعداد ، و التحضير وبعد أن عرف أن كل أقراني يعتبرونني مرجعا بالنسبة إليهم في المرحلتين الإعدادية ، والثانوية في مفردات اللغة وكثيرا ما كانوا يظنون – خطأ بطبيعة الحال – أنني أحفظ المورد عن ظهر قلب. أذكر مرجعي الأول في هذه الفقرة المرحوم الأستاذ فاروق – الذي يسكن خلف مجمع المحاكم – مدرس اللغة الإنجليزية الذي كنا نعتبره أكثر الناس معرفة بأصول ومفردات اللغة ، لكن الأستاذ محمود مختار – الذي كان يسكن خلف مسجد السيدة حورية – أقرب إلى قلبي و أكثر الأساتذة تفهما لتكويني العصبي والنفسي ؛ لذا كنت ألجأ إليه أحيانا مع يقيني بأن المرحوم الأستاذ فاروق قد يكون أدرى منه بمرادي حتى تعلمت بعد ذلك أن أستعين بأصحاب الكفاءة و أحيل ذوي الثقة للأمور الشخصية على عكس ما كان يفعل المخلوع مبارك. بعد ذلك بقليل كنت قد بدأت في المواظبة على سماع خطبة الجمعة في مسجد أبو سبيحة بشارع الدهشوري للشيخ إبراهيم المغربي – من أبناء مركز الواسطى – النسخة السويفية المتقنة من المرحوم الشيخ كشك ، وكنت أتأثر للغاية بخطبه التي كانت تبكي جميع الحاضرين في المسج والمصلين خارجه بلا أي استثناء ، وكنت أظن أنها من صميم إبداعه وتجميعه ، حتى عرفت بعد ذلك في المرحلة الجامعية – سافرت إلى العاصمة للحصول على ليسانس التاريخ والحضارة من جامعة الأزهر بالدراسة وكنت أطالع المكتبات وأهتدي أحيانا إلى مؤلفات تكشف لي حقائق الأمور – أنه كان يحفظ كتب ، وخطب الشيخ كشك ويعيد اختراعها من جديد من نافذة أبو سبيحة. صلاة العصر من يوم الجمعة تذكرني دائما بأنني كنت أقف كثيرا أمام مرآة حجرتي في مثل هذا الموعد بانتظام ، و أحاول أن ألقي الخطبة مرارا وتكرارا بعد أن أسمعها جيدا على جهاز التسجيل الذي كنت أستعيره من أخي الذي يكبرني بثمان سنوات حتى أحفظها و أتشرب معانيها بكل جوارحي لأعيد إلقائها في صباح السبت أمام الأساتذة والزملاء ، لاسيما عبد الرحمن الذي كان يستفز ملكاتي يوما من بعد يوم. بعد أدائي الملفت قرر الأستاذ حسن خضير أن يدخلني إلى مسابقة الخطابة على مستوى المعهد ، ومنها إلى مسابقة المحافظة بعد أن قرر كل زملائي الانسحاب من أمامي لمعرفتهم بالنتيجة الحتمية ، وتجنبا للتوبيخ من باقي الزملاء حتى لقبني الزميل محمد حجاج – يسكن في مواجهة مكتب البريد الرئيسي بشارع عبد السلام عارف – برئيس قسم الخطابة في محافظة بني سويف ؛ ثم لقبني الزميل الأستاذ تامر مبروك – من أصول بباوية – ب “البروف” اختصارا لاصطلاح بروفيسور ، حتى حصدت كل المسابقات التي كنت أدخلها في مجال الخطابة بلا أدنى عناء يذكر ، و ما أزال أحتفظ بشهادات التقدير من الدكتور غلوش الذي كان يجلس على كرسي المحافظ وقتها. في المرحلتين الإعدادية والثانوية ، بحكم أنهما كانتا في مبنى واحد ، كان لثلاثة من الأساتذة أكبر الأثر في تكويني العلمي ، والمعرفي بل والشخصي أيضا ؛ الأول وبلا منازع الأستاذ أحمد غريب الذي كان يدرس لي مادة الفقه الشافعي في السنوات الثلاث من المرحلة الإعدادية ، والذي أكسبني – كما أكسب أقراني بطبيعة الحال – معرفة تفوق معارف أبناء الجامعة ، حتى أنني كنت بمثابة مالك المدينة على نطاق العائلة بالكامل ، لقد كان نموذجا للمعلم المستنير الذي يريد أن يصنع من صغاره رجالا على مستوى مرموق من الوعي و المعرفة ، وكان يبذل جهدا رائعا و يتفانى قدر الطاقة في إيصال كل ما يعرفه لصغاره بعد أن كان الشعر قد بدأ يظهر على وجوههم على استحياء حتى خرجنا من مدرسته المتفردة رجالا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وفي المرتبة الثانية يتكئ الأستاذ أحمد مصطفى معلم مادة الكيمياء بالمرحلة الأولى الثانوية، أذكر أن الأستاذ أحمد كان قد تخرج في كلية العلوم ثم التحق ، كمحلل كميائي ، بإحدى شركات البترول في البحر الأحمر ، و أذكر أنه كان يحكي لي يومياته – من منزله بشارع عامر عفيفي – أثناء عمله في الصحراء الشرقية ، المدهش في الأستاذ أحمد مصطفى أنه كان صاحب شخصية قوية للغاية و كان يصيبنا بالرعب على مسافة سنة حيث أننا كنا نخاف من اليوم الذي نصعد فيه إلى الطابق الثالث ونحن في المرحلة الإعدادية تجنبا للقاء المارد الكبير في الصف الأول من المرحلة الثانوية ، لكنه كان يمتاز في مسألة أنه كان على دراية واسعة بمعارف متعددة وكان يذهلني عندما أتحدث معه بمعلومات عن علوم الميكانيكا والذرة و التعدين و المساحة حتى أرجع إلى البيت في كل مساء متشبعا بما تفتق ذهني عليه ، ومدركا أن مدراكي لم تعد كما كانت عليه ليلة أمس على الإطلاق ، وكان يتحسس مقادير طلابه وكان يعرف عن كثب أن تلميذه محمد محسن أبو النور لن يكون رجلا عاديا .. و أتمنى أن أكون في طريقي كي أحقق له بعضا ما تنبأ به. ثم يأتي الأستاذ هاشم بكري – أحد أهم أبناء قرية كوم الرمل بمركز إهناسيا على الأقل في الظرف الراهن – مدرس مادة الأحياء الذي كان قد تخرج في كلية العلوم بجدارة ثم التحق بسلك التدريس الثانوي الأزهري ليضعه القدر في طريقي ، حتى يؤدي رسالته على أكمل وجه واضعا قدماي على جادة مستقيمة عبدها خصيصا لتتناسب مع إمكانياتي التي كان دائما يحدثني عنها ، و أذكر أنه قال لي وكنا نتبادل الزيارات المنزلية ، أن بني سويف لم تعد قادرة على استيعاب ما أرنو إليه ، و أن واجبي أن أسعى إلى الهدف في أسرع وقت ممكن. أرجأت الحديث عن الأستاذ هاشم لآخر المطاف لغرض الترتيب الزمني ولغرض أنه يستحق أن أفرد له أكبر مساحة ممكنة حتى أتعرض بأسطر متواضعة لقامته وقيمته ، كان شاعرا مرهفا وكاتبا موهوبا وخطيبا فصيحا و موسوعيا لدرجة جعلتني أتشكك في عدم قدرتي على الجلوس مع نظيره في المستقبل ، و هو الوحيد الذي ظل – حتى كتابة تلك الأسطر – على اتصال دائم بي يطمئن على أحوالي و يهديني بكلماته الجامعة المانعة إلى الطريق مرة تلو الأخرى إذا ظن أني قد حدت عنه ولو للحظات. في حقيقة الأمر لم أكن أعرف أن الفتى غريب الأطوار سوف يكتب تلك الأسطر ولم أكن أتخيل أنه سوف يجلس مع محافظها الجديد على طاولة مريحة لمناقشة القضايا الكبرى التي يعرفها عن أهل بلده ومسقط رأسه و يطرح عليه دراساته و اطرحاته لكي تصبح بني سويف البلد التي نحلم بها جميعا ، ذاك الفتى غريب الأطوال يقولون عنه بعد سنوات قليلة من عمر الزمن أن شخصية اعتبارية – بكل تواضع – على شفير تبؤ أرقى المقامات في مصر و الوطن العربي. بعد تلك السنوات من العمل الشاق ، والصبر ، ومصارعة الظروف ، ودعاء الوالدين ، و توفيق الله ، استطعت أن أذهب إلى منزلي الصغير بضاحية الهرم ثم أستريح من عناء يوم مزدحم ملقيا ظهري على وسادة مريحة من القطن المصري الأصيل لأقرأ أحد مؤلفات الأستاذ هاشم المدهشة عن آثار الذنوب ، و قد عرفت – عن يقين – أن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه وقد أعطاني و أفاض. بني سويف التي لا أسكن فيها بحكم العمل والدراسة تسكنني في كل مكان أذهب إليه ، تضمني إلى صدرها الدافئ كأم وجدت رضيعها بعد طول غياب ، أسعد برائحتها و ألهوا في حدائقها كما كنت أفعل أيام الصغر ، أترك ذاتي في رحابها لينعم ضميري براحة كونية لا يجدها في كل بقاع الأرض. [email protected]