* رسوماته وموتيفاته المدهشة طالت كل شق في بورسعيد الجدران والعربات و مراكب المعاصرين لم أجد ما أبدأ به غير اسمه ، فاسم طه شحاتة ، ليس اسما عادياً، كغيره من الأسماء المحفوظة بمكاتب السجل المدني المنتشرة بين أركان مصرنا المحروسة ، اسم ( طه شحاتة ) يخفى داخله حالة خاصة جداً ، بين فنان ومدينة ، وبين إنسان وذاكرة حية لكل بني جلدته والمحيطين به ، ذاكرة لم تخفت جذوتها ، رغم مرور ما يزيد عن ثلاثين عاماً على وفاته ، وغياب رسوماته وموتيفاته المدهشة عن جدران وعربات و مراكب المعاصرين من أبناء مدينة بورسعيد ، لأنها ما زالت تشكل الذاكرة البصرية لكل أبناء المدينة ، خاصة أن يد الفنان طه شحاتة طالت كل شق فى مدينته ، سيما أماكنها الشعبية .. الآن تجد بعض أثاره الفنية على جدار هنا أو هناك ، أو عربة يد خشبية متهرئة بين ركام أشياء قديمة ، أو عربة أبس كريم ما زالت خطوطه وتصاويره تزينها ، أو مركب صيد قابعة على الرمال ، لا يبدو من أخشابها إلا رسومات ذلك الفنان الشعبي المدهش ، بعد أن علاها غبار الزمن والنسيان . بدأت رحلتي بالبحث عن الفنان طه شحاتة ، وعن عوالمه ورسوماته بالعثور على ابنه : محمد طه شحاتة ، الذي يبلغ من العمر أربعة وستين عاماً ، وتعلم على يد أبيه الرسم ، وأخذ عنه حرفة كتابة الخط العربي وتخطيطه ، وما زال يحتفظ بتوقيع والده السحري على أعماله الأخيرة ، فاسم طه شحاتة له وهجه وبريقه وثقله لدى الجميع .. وكل أصول المهنة وخفاياها وهبها الأب لأبنيه : محمد وعلى ، وهبهم إياها كي تكون عطية للرزق وسبباً للحياة ، بعد أن رزقه الله بثمانية أبناء ، ليس بينهم ذكوراً سواهما .. وتوفى ( على ) مؤخراً ، ولم يعد سوى محمد حاملاً لتراث أبيه ، وحافظاً لدقائق وتفاصيل وأسرار المهنة ، لأنه في حياة أبيه كان ظله الآخر ، وفى مرضه كان يده الأخرى التي تبدع وترسم .. ويقول محمد عن أبيه : أن والده ، ولد عام 1900 لعائلة فقيرة ، ليس بينها أي نابه في الفن أو الرسم أو كتابة الخط العربي ، جاء إلى الحياة فناناً بالفطرة والسليقة ، لم يتعلم الرسم من أحد ، ولم يأخذ جمال الخط العربي على يد أحد ، فالرجل أمي ، لا يجيد أو يعرف اللغة العربية ، أو أي حرف من حروفها ، فقط يتمتع بحس فنان مرهف ، وبعين يقظة ومختلفة ، ويد فيها من الموهبة ، ما تعجز عنه أي يد أخرى .. قضى الفنان معظم عمره بمنطقة الحرية ، وهى إحدى المناطق الشعبية الحميمة في بورسعيد ، والتي أزيلت الآن ، وصارت أثراً بعد عين ، ولم يكن يخلو بيت من بيوتها من إحدى رسوماته المعروفة ، التي كانت تغطى أيضاً كل الحوائط بأحياء بورسعيد الفقيرة ، خاصة حيي العرب والمناخ .. ولم تكن هناك أي عربة خشبية في كل ربوع المدينة إلا وتحمل رسماً من رسومه المعروفة.. والمدهش أنه بسبب عدم درايته بالقراءة أو الكتابة ، كان لابد لطالب الرسم أو التخطيط ، أن يكتب اسمه في ورقة بيضاء ، كي يخطها أو بمعنى أدق يرسمها طه شحاتة ، يرسمها كما رآها ، ويمنحها فيضاً من موهبته الفطرية ، وكان لديه قدرة عبقرية على رسم كل شيء وأي شيء بأدق الملامح والتفاصيل .. المحزن أن محمد شحاتة لا يحتفظ بأي شيء من تراث والده الراحل ، مما كبدنى رحلة بحث مضنية عن أعمال الفنان فى كل شوارع بورسعيد ، رحلة بحث عن فنان غاب تحت طبقات الزمن ، لكن صوته كان معي في كل شارع سرت فيه ، يحفزنى فى العثور على رسومه قبل أن تفقد للأبد .. والتقيت بالشاعر محمد النادي ، وهو من أهم شعراء جيل الثمانينات ، ويكتب قصيدة النثر ، ونشرت قصائده فى عديد من الدوريات المصرية والعربية ، وتعلقت روحه منذ طفولته بعالم طه شحاتة ، وكان يسكن مجاوراً له بمنطقة الحرية ، ويقول عنه : أنه قريب الشبه من المخرج العالمى المعروف الفريد هيتشكوك فى ملامح الوجه ، وأنه كان قصيراً وبديناً بعض الشىء ، وعادة ما يضع على رأسه ( بالمة ) – نوع من أنواع اغطية الرأس – أو يربط المنديل على رأسه ويشكله بشكل نادر ، ويحوله الى غطاء أوروبى الملامح والهيئة ، وكان يستغرق فى عمله حد التوحد التام ، ويقضى ساعات متواصلة بلا كلل او ملل ، أمام عربة أبس كريم ، أو عربة اطعمة ، أو قارب صيد ، كي يزينه ويشكله بالرسوم ، ولا يلتفت تجاه أى شىء ، وربما لا يسمع أى أصوات من حوله .. ورسوماته أو بالأحرى موتيفاته تقبع فى ذاكرة جيل محمد النادى ، والأجيال السابقة له ، ومن موتيفاته الأثيرة : الحصان العربي ، النخلة ، أطباق الفاكهة ، مشهد افتداء سيدنا إسماعيل بالكبش ، العين التي يخترقها السهم ، كف اليد .. كما برع الفنان الراحل براعة فارقة في رسم شخوص أصحاب العربات الخشبية ، أسفل عرباتهم ، يرسمهم بملامحهم الدقيقة جداً، لكن جميعهم يشبهون بشكل أو بأخر شخصية ( أبو العربي ) – أهم شخصيات الفلكلور البورسعيدى – بما عرف عنها من حب للحياة واندفاع فيها .. كذلك رسمه ( لسوبر مان ) وهو يصعد طائراً إلى السماء ممسكاً بأيس كريم أو ( جيلاتى ) بلغة السبعينات والثمانينات ، سوبرمان أكثر براءة وجمالاً من ( سوبر مان ) الذي ألفناه في الأفلام السينمائية .. وكانت خطوط وألوان طه شحاتة مبهجة وحية وفريدة ، وتعرفها من وسط ألاف الرسوم والتصاوير ، فالراحل تميز بأهم ما يميز الفنان الحقيقي ، تميز بأن خطوطه ورسوماته وألوانه مثل بصمة يده ، لا يوجد لها بديلاً أو مثيلاً.. ولم يترك الفنان طه شحاتة مكانه وسكنه بمنطقة الحرية ، برغم انه كان خطاطاً ورساماً رائجاً ، لأن الفنان الشعبي يعيش دائماً بجوار كنزه ، وكنز طه شحاتة كان في بيئته الشعبية ، التي استمد منها معظم رسومه وتصاويره المدهشة .. ومن تلاميذ الفنان الراحل ، الذين تعلموا على رسومه ، الخطاط جمال الطعمة ، وهو أيضاً ابن نفس المكان ، الذى عاش فيه الفنان الشعبي طه شحاتة ، وكان يجالسه فى أخريات أيامه طلباً للمعرفة والنصيحة ، ويقول جمال الطعمة : أن الفنان الراحل برغم أميته الهجائية ، أتقن ثلاثة أنواع من الخطوط إجادة تفوق الوصف : الفارسى والديوانى والرقعة ، وله محاولات بديعة فى خط الفرى هاند .. وما زالت رسوم الراحل تنبض بالتفرد والحياة ، على عربات الشربينى ، أشهر وأهم بائعي الجيلاتى ببورسعيد ، وعلى عربات ومحال الكرداوية ( أهم عائلات بائعي الفاكهة ) .. وأضاف جمال أن الفنان الراحل، أصيب في كبره بالشلل الرعاش، ولم يمنعه ذلك من مداعبة الفرشاة بين الحين والآخر، وكأنها سره الذي جاء من أجله إلى الحياة.. وما زال جمال الطعمة يتذكر مدى حزن كبار خطاطي ورسامي مصر ، الذين درسوا ونبغوا في فنون الخط العربي ، على رحيل الفنان طه شحاتة ، وحضورهم جميعا مناسبة تأبينه .. ولفت فن طه شحاتة نظر عديد من الفنانين والنقاد الأكاديميين ، فكتب عنه الفنان الكبير حسين بيكار في عموده الشهير ( ألوان وظلال) في جريدة الأخبار .. ولم يخلو أى ملف عن الفنون الشعبية بمصر من الحديث عنه وعن فنه ، واعتبره معظم الدارسين مثلا حياً وبليغاً للفنان الشعبي التلقائي ، سيما في جدارياته البديعة ، وزخارفه على الحوائط ، وأهمها جدارية العودة من الحج ، والتي يعتبرها الكثيرون النموذج المثال للتعبير عن عالم طه شحاتة بكافة تفاصيله وبدائعه .. Osama kamal