* كان العازف يقول دائما: إن وردة كافية لمنح البهجة وإن فردا قادر على إقامة حفلة ربما تصلح هذه العبارة أكثر من غيرها لوصف كتاب الشاعر والقاص الشاب احمد الفخراني الجديد ” مملكة من عصير التفاح ” الصادر حديثا عن دار نهضة مصر.. تلك العبارة التي افتتح بها قصته ” الصياد الذي صار عازفا ” .. وربما يصلح عنوان هذه القصة تحديدا لوصف أحمد الفخراني نفسه – أو أحمد الفاتح كما أسماه الكتاب – ووصف عالمه القصصي والشعري الخاص به.. ففي عالم أحمد الفاتح لا حدود حقيقية لقدرة الخيال ولا فواصل تذكر بين الكائنات.. يتحول الصياد إلى عازف والأمير إلى ثعلب بذيل معقود والمدينة إلى سحابة بيضاء والمطر إلى قبلات.. يتحول الخيال إلى لغة واللغة إلى خيال.. في هذا العالم يتسع تعريف المكان ويضيق وفقا لما تمله هذه الأمكنة من موهبة.. فيصبح بإمكانك أن تكتشف العالم المفقود في سجادة الصالة وأن تدخل بيت النمل ليتعلم قلبك الاتساع للعالم.. في الوقت نفسه الذي يمكن فيه للعاشقين حسان وهاجر حمل الأرض من طرفيها ليعودا من “الهجر “.. وفي هذا العالم لا تحتاج إلى البحث عن إجابات في هذا المطر من الأسئلة المدهشة.. أنت فقط بحاجة إلى خيال صادق وروح بإمكانها رؤية اللغة في حالات أصبح الضوء اقوى من احتمال البصر.. اللغة : اللغة في المجموعة تحمل طابعها الخاص.. فأنت في الحقيقة بمجرد عبورك للإهداء لا ترى أثرا يذكر لأحمد الفخراني.. وإنما لا يكون هناك سوى أحمد الفاتح .. الطفل الذي يستلم خيط الحكاية ويغزلها حتى يصنع عالما من الحكايات.. الحكايات التي يصر فيها ألا يتخلى عن لغته تحت أي مسمى.. هو يعتمد على كثرة التفسيرات وتوضيح مبررات وجود الشخصيات أو مواقفها مسترجعا عشق الأطفال لملء الفراغات ومنطقة الأفعال حتى ولو على منطقهم الخاص غير المقيد بالحواس.. كذلك يعتمد على الفقرات القصيرة المشبعة التي تجعلك منتظرا نهاية الحدوتة في آخر كل فقرة.. كأن هناك من يسير بالشخصيات ويرتجل الأماكن والمواقف وهناك من يقول له ” وبعدين ؟”.. دائما يمكنك أن تشعر بهذه الرغبة في الاستطراد التي تجعل بدايات الفقرات خفيفة كبدايات القصص والنهايات مطمئنة كنهاياتها.. هذا الاستطراد الذي يدفعه أحيانا إلى التعثر في الحكي والعودة لذكر أشياء سابقة أو لاستخدام كلمة ” لكن ” أكثر من مرة في الفقرة الواحدة لإصباغ الإيقاع السريع على حركة الأحداث بخلق المشكلات ثم إعادة معالجتها.. الأمر الذي كاد يضعف مستوى اللغة الفني ويقيد سلاستها أحيانا ولكن يمكن استيعاب هذا عندما نضع في اعتبارنا أن من يحكي هو أحمد الفاتح.. فنجد مثلا في قصة ” متاهة النجوم ” : ” كاد يبكي لأن الوصول إلى أميرته ابتعد أكثر وأكثر لكنه نفض عن ملابسه البكاء وقام وهو أكثر إصرارا على الوصول فلما تعثر في الثعبان أيقن أنه على الطريق الصحيح.. قطع عبد الله ذيله .. لكن الثعبان صار ثعابين . لم يعرف أي رأس عليه أن يقتله كي يقضي على الثعبان لكن الأميرة أرسلت إليه نظرة .. نظرة التصقت بعين عبد الله الى الأبد فعرف الثعبان الصحيح فقطع راسه..” أما نهايات القصص نفسها فنجد فيها حضورا قويا لأحمد الفخراني الذي يحاول أن يكسر المألوف من هذه الكتابات التي تعتمد على النهايات السطحية المجانية التي تغلق صندوق الحكاية وشبابيك الأسئلة.... هنا لا يريدك الكاتب أن تخرج من الحدوتة بهذا الشكل ربما لأنه لا يريدك أن تخرج منها أصلا.. لذا فإنه يمنحك نهايات ذات ألوان زاهية وإضاءة خفيفة تغري بالجلوس في ظل الحدوتة لبعض الوقت.. ففي ” حكاية البيدق الأبيض والفرسة السمراء “.. تسير الأحداث إلى ان يجد البيدق العاشق نفسه في مواجهة الفرسة السمراء على رقعة الشطرنج فيقرر الانسحاب من الرقعة.. ويخرج ليلقي قصائده ونكاته للخارجين من الرقعة ثم صنع حديقة ونافورة.. أما الفرسة السمراء فواصلت انتصاراتها في معارك أخرى مع جيوش اخرى وكانت تنظر الى البيدق الابيض من ان لآخر متعجبة من قدرته على جعل المكن خارج الرقعة مليئا بالبهجة والحياة.. وفي حكاية ” قهوة سيئة الصنع ” فإن حسن بعد ما فقد حبيبته وهي الوحيدة التي نجحت في صنع قهوته الخاصة رغم أنها لم تكن جيدة الطعم.. نجده وقد نقش اسم حبيبته على كل زاوية وركن فازدادت المدينة بهاء.. وهنا تقابل حالة الفرحة التي غمرت سكان المدينة حالة الحزن التي انتابت حسن لأن حبيبته لم تعد.. وإصراره على الاستمرار في العمل ليصنع صباحا جميلا يصلح لاستقبال فتاته عندما تعود.. الخيال : خيال الفخراني الصادق هو أول ما سيصادفك في هذا الكتاب.. بداية من العنوان.. ثم الوصف ” حواديت “.. مرورا بالغلاف.. ثم المقدمة التي يبدأها بإهداء : إلى مس إيمان لأنها أهدتني مفتاح العالم أين ذهبت الحوريات إذن ؟ كن هنا.. أعرف.. جنيات الغابات يعرفن الطريق دائما.. ألهذا نتيه ؟ هل تحتاج رؤيتهن إلى إيمان ؟ تصحبك الحواديت التسع وعشرون بعدها من مكان ما إلى داخلك بمرونة من يمتلك تعريف المكان حتى تفقد الفارق بين الحركة بين أرجاء العالم الأربعة وبين الحركة داخل روحك.. رحلة لن يفارقك فيها الخيال أو ما أراد أن يشبهه أحمد الفاتح – ربما – بالظل الوحيد الأبيض.. هذا الظل الأبيض يظل يركض أمامك وحولك صانعا الصور المتجددة ومعيدا تركيب الأشياء وإنشاء العلاقات.. هو يتحدث مثلا عن الثلاجة في حدوتة ” سندوتش الجبنة البيضاء ” بوصفها : الكوة السحرية التي تحول زجاجات المياه الغازية إلى مشروب مثلج وتعيد الحياة إلى قطع الشيكولاتة الذائبة ويتحدث عن العطش في ” الوقوع في غرام مصورة فوتوغرافيا ” فيخبرنا بأنه : كان رجلا نحيفا يناجي الله ويعشق الماء بلا أمل ثم تستمر ساقية الخيال في الدوران معيدة تدوير الأشياء التي ظلت طويلا غير مرئية داخل روحك لتعود على السطح طازجة وقادرة على إنتاج الدهشة.. لتصل في نهاية الكتاب إلى ” جنة الجعان “.. التي يتحدث فيها أحمد الفاتح عن مصيره ومصير رواد عالمه.. ” في الجنة سأصير ملكا على قطيع من الماعز وعلى أشجار كبيرة تثمر الشيكولاتة.. حتى أمل الوحدة .. فأتخير رعيتي واحدا واحدا .. منشدين وسحرة وبوهيجية وبائعي غزل بنات وحمص شام ولاعبي سيرك وغجريات وراقصي تنورة.. ستكون مملكتي على ظهر سحابة .. شعارها بائع عرقسوس يصب الأكواب بظهر مقوس.. سيكون تاجي طرطورا كبيرا ملونا وعرشي قوس قزح.. سأتنقل بسحابتي التي ستتخذ أشكالا عديدة – مرة تنينا ومرة حصانا بأجنحة ومرة فرس بحر – بين جنان الله وفراديسه.. سأصير بهجة من بهجات الجنة .. ومعي رعيتي التي حاولت أن تمنح الدنيا بهجة بأشياء عبيطة ” ربما تعتبر هذه الجملة الأخيرة أصدق ما ورد في هذا الكتاب.. فالكاتب هنا لا يبحث عن مشروع أدبي ” تخين ” أو يتوقع أن يحصل على إعجابك كقارئ أو كناقد.. هو يضع رسالة البهجة كأولوية على كل الاعتبارات الأخرى.. ويخبرك أن هذا هو الشيء الوحيد الذي حاول فعله في هذا الكتاب الذي سبقك إلى السخرية من شكل الكتابة بداخله بوصفها ب” الأشياء العبيطة “.. هنا ربما يحاول الفخراني أن ينتقي جمهور الكتاب إن جاز التعبير.. فيطرد من عالمه كل من لا يحترم البهجة من أجل البهجة وكل من لا يصدق قدرة الخيال.. فيخبرهم بأنهم لن يجدوا في هذا الكتاب سوى أشياء عبيطة .. دون أن يخبرهم أن هذه ربما لا تكون مسئولية الكتاب بالطبع ..