مع ما تعيشه مصر فى هذه المرحلة الحاسمة من تاريخها وهى تتوجه نحو استعادة حريتها و كرامتها واستكمال أهداف ثورتها ومع استعادة الأزهر الشريف لدوائره الثلاث التى عرف بها على مدى تاريخه: الدائرة الوطنية المصرية، والدائرة العربية الإسلامية، والدائرة العالمية، وانحيازه التام للوطن وقيمه وتطلعاته، لا يكف الأزهر عن مواصلة رسالته العالمية الحضارية. وكان الإمام الأكبر قد وجه نداءه وطرح مشروع القيام بحملات توعية ثقافية وإعلامية، تدخل فيها المدارس والجامعات فى العالم العربى والإسلامى، للتركيز على القدس وتاريخها العربى الإسلامى، الذى حمل منذ فتحها فى عهد أمير المؤمنين عمر الفاروق كل آيات التسامح والتحضر الإنسانى، فكانت القدس مفتوحة لكل المؤمنين من أديان التوحيد، وهي معراج النبى محمد صلى الله عليه وسلم، ومهبط الأنبياء والرسل، ودعا الأزهر كل المنظمات والهيئات الإسلامية والعالمية، وفى مقدمتها منظمة المؤتمر الإسلامى لتجند كل قواها، وكل قوى العرب والمسلمين لتحقيق هذه الرسالة، لزرع هذه الرسالة الدينية الحضارية الإنسانية فى ذاكرة الأجيال الشابة فى مناهج التدريس لكى لا ننسى، وحتى يعين الله هذه الشعوب صاحبة الحق المقدس، فى صيانة هذا التراث والقيام على استمراره والقيام بدوره، وحفظه من التشويه و التهويد. المقام يضيق عن حديث علمى أكاديمي عن "رؤية إسلامية للتراث الحضارى والمحافظة عليه" أود أن أوضح ما هو هذا التراث أولاً: إنه كل منتج إنسانى عمرانى على الأرض أنتجه البشر استجابة لدعوة استعمار الله الإنسان فى الأرض التى انشئ منها. "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" وهذا المنتج يتنوع بتنوع الحضارات الإنسانية فى الزمان والمكان، التى سماها ابن خلدون "العمران" ، تدخل فيها الخصائص البيئية الطبيعية وتمرس كل مجموعة إنسانية فى تفاعلها مع معطياتها، تلك الخصائص التى تنشأ فيها أمة من البشر، يهدى الله كثيراً من عقولها فيؤهلها لحمل أمانة العلم والبحث والعمل. يتفاعل الإنسان مع عوامل هذه البيئة، وتتدخل فى ذلك القيم التى تتراكم، وتترسخ وتحدد هوية هذه الجماعة أو تلك وتميزها من غيرها. والقرآن الكريم، مؤسس الإسلام ديناً وقيماً وعلوماً وحضارة، يحتوى، إذا عبرنا اللغة الحديثة على محاور ثلاثة ليست متجاورة بشكل فاصل محدد، ولكنها متداخلة متراكبة يؤازر بعضها بعضاً ويفسر بعضها بعضاً. أولاً: الغيب، وعالمه ومعالمه فى القرآن الكريم، وضرورة الإيمان به، "الذين يؤمنون بالغيب". ثانياً: الطبيعة، وكل ما خلق الله وسخر للإنسان حامل الأمانة الذى كرمه وفضله على كثير من خلقه تفضيلاً. ثالثاً: الإنسان الكائن العاقل المكلف الفاعل الذى حمل الأمانة، والمدعو إلى إقامة علاقة تقربه من عالم الغيب وتربطه به رباط إيمان به وعبادة لله خالصة، وعلاقة تدعو إلى التعامل مع الطبيعة, واستئناسها، واستخدامها فى رفق وبحكمة، بما هى مخلوقات الله، دون إسراف ودون إخلال بقيمها. لقد أطلق الإسلام منذ ظهوره على الأرض الطاقات الإنسانية المبدعة المستكشفة المستأنسة، فنشأت فى ظله علوم تفاعل بها مع الخلق، وأنتج خلال قرون، ما يسمى بالتراث الإسلامى، تفاعل بدوره مع بقايا تراث إنسانى، ونفخ فيه الروح، وكان العلم فى قلب هذا التراث باباً مشرعاً على مصراعيه يطلق الهمم وينطلق بها إلى أعلى الآفاق. وكانت العربية، لغة القرآن، تحمل أمانة العلم والبحث والخلق والإبداع خلال أربعة قرون تفردت فيها بحمل لواء النور بين لغات الأرض، وكتب بها العلماء مسلمين وغير مسلمين فى ظل الحضارة الإسلامية. وكان تراث عملاق قام بدوره الإنسانى والحضارى، فى إيقاظ شعوب وأمم وساعد فى نهضتها، عندما ترجم هذا التراث إلى لغات أوروبا، فى طليطلة بالأندلس، وباليرمو فى صقلية فى أواخر القرن الثانى عشر، وخلال القرن الثالث عشر الميلادى. وينقسم التراث والآثار إلى نوعين: الأول: علوم نظرية وتجارب فى شتى مجالات العلوم الإنسانية والعلوم التجريبية البحتة. الآخر: علم وإبداع تجسم فى العمارة وفى البناء وما يسمى بالآثار من النحت والرسم والتصوير والفنون والآداب، التى كان للروح الإسلامى فيها تجل واضح يميزها عن غيرها، وإن شاركت الحضارات الإنسانية الأخرى فى الكثير منه وهذا مما يعتز به الإسلام والمسلمون. ويذكر التاريخ أنه عندما دخل الإسلام الفاتح البلاد وأظلها برسالته السمحة، كان فى بعض جهاتها ومناطقها منتج من تراث حضارات سابقة، فحافظ المسلمون الفاتحون ومن تلاهم أجيال على هذا التراث الحضارى، وعلى تلك الآثار فى مصر وفى أرض الرافدين وبلاد الشرق القريب فى سوريا وفلسطين ووادى الأردن ولبنان وفى جنوب جزيرة العرب، مما يعرف بآثار الحضارات السامية القديمة، وفى غير ذلك من البلاد التى ترسخ فيها الإسلام. وكان لمصر الحضارة من ذلك النصيب الأكبر، فقد حافظ المسلمون على معابد الفراعنة والتراث الفرعونى ثم المسيحى، فلم تمس المعابد ولا الكنائس بأدنى سوء بل كانت محفوظة مصونة يفخر بها المصريون ويجلها العالم كله، حتى وصلت إلينا كما تركها منتجوها، وكانت العلوم، وكان التراث أمانة فى أعناق المسلمين لم يفرطوا فيها، وحفظوها، ورمموها، فبقيت، ودرسوا معالمها وعلموا تاريخها. وكانت فى نظرهم آيات لله فى أرضه تدعوهم إلى النظر الذى هو فريضة: "قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق" "أفلم يسيروا فى الأرض فينظروا"؟ فما هو الجديد اليوم؟ إذا كان ثمة فئة من الناس تدعوا إلى إلحاق الأذى والضرر بهذا التراث الإنسانى العملاق، وتتداعى لإزالته، فلا شك أنها بعيدة كل البعد عن دعوة الإسلام المنير السمح العالِم والشامخ، ولاشك أنها تسبح فى بحار من جهل بالإسلام وبرسالته، وجهل بالعلوم والحضارات، وجهل بعظمة الأوائل من حاملى راياته وأنواره للإنسانية، فى مقدمتهم الفاروق عمر وذو النورين عثمان وغيرهما ممن فتحت البلاد فى عهدهم، وهم قد عملوا بوصية رسول الله إلى الإنسانية "فاستوصوا بمصر خيراً". ولاشك أن تلك موجة أنتجتها ظروف من استبداد ومن جهل ستزول كما تقتضى سنة الله فى خلقه، وفى حركة التاريخ الذى يسير إلى الأمام. "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض كذلك يضرب الله الأمثال" صدق الله العظيم وحفظ الله مصر من كل شر، وصانها من كل سوء. * د محمود عزب مستشار الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف