منذ عدة عقود ، تحديدا في نهايات الثمانينات من القرن العشرين ، فشلت أجهزة الاستخبارات العالمية ، الأمريكية تحديدا، في توقع انهيار المنظومة السوفياتية . و بعدها بحوالي عقد من الزمن فشلت أيضا في توقع الهجوم الذي حدث على أرض الولاياتالمتحدة ذاتها ، أو ما بات يعرف بهجمات الحادي عشر من سبتمبر . و من بعدها بعقد آخر نشبت الثورات و الحركات و الانتفاضات العربية ، في تونس و مصر و ليبيا و البحرين و اليمن ...الخ ، لتسجل تلك الأجهزة فشلا آخر في سجل اخفاقات توقعاتها الاستراتيجية ! و اذا كان معظم من يعملون في السلك الأكاديمي ، و كذا المشتغلين بالسياسة و صناع القرار يولون وجوههم دوما صوب الولاياتالمتحدة ، بدوائر نفوذها و جماعات الضغط القوية فيها ، فضلا عما تمتلكه من مراكز بحثية استراتيجية ، أو مخازن تفكير ، كما في ترجمتها الحرفية من المسمى الانجليزي ، و التي من أبرزها راند ، و كارنيجي ، و مركز الدراسات الدولية و الاستراتيجية ، و بروكينجز ..و غيرها ، و ذلك بهدف الحصول على المعرفة الاستراتيجية الملائمة بشأن أبرز و أهم الظواهر ، و القضايا ، و المشكلات ، على كافة المستويات و الصعد ، حتى و لو كانت تخص الشؤون الداخلية لبلادهم ذاتها ! أقول رغم ذلك فاءن هذه الأجهزة الجبارة قد أثبتت هى الأخرى فشلا ذريعا في تعاملها مع المعطيات المتاحة لها ، من قبيل البيانات و المعلومات و التي هي في العادة محظورة على الباحثين الوطنيين ، حيث أنها لم تتمكن بدورها من توقع السيناريوهات الحالية للأوضاع السياسية للمنطقة العربية ، حتى أن فشلها هذا قد تبدى جليا في مدى التردد الذي اتسم به موقف صانع القرار الأمريكي ؛ في أعلى المستويات ، أعني مؤسسة الرئاسة و وزارة الخارجية الأمريكية ، فقد كان الانتظار طويلا حتى تتضح الأمور ، و التي اتسمت بالمفاجأة و الغموض بالنسبة اليهم ، و ذلك حتى يعلنوا انحيازهم الصريح الى جانب الثورة و تغيير الأوضاع في هذه المنطقة الملتهبة ذات الأهمية الاستراتيجية في العالم ، و هو الانحياز الذي لا ينبني بالطبع على موقف أصيل و حقيقي يجعلهم يناصرون حركات التحرر الديمقراطي في دولنا ، و انما لأسباب و عوامل أخرى تكاد الا تكون خافية على أحد . و لنا أن نعلم في هذا الصدد أن مؤسسة الرئاسة الأمريكية كانت قد ألقت بثقلها كاملا على تلك المؤسسات البحثية الاستراتيجية (مخازن التفكير) بعد هجمات سبتمبر لكي تعوض الفشل الذي أصاب أجهزتها الاستخباراتية ( خصوصا السي أي أيه الشهير ) ، بل و قامت باءطلاق يد هذه المؤسسات ، و بالذات مؤسسة راند لكي تدرس و تقييم و تعيد هيكلة و تدريب الكوادر العاملة في هذا الجهاز المخابراتي العتيد ؛ السى أي أيه . الا أن المفاجأة المدوية أن هذه الأجهزة البحثية العملاقة قد فشلت بدورها أيضا في انجاز أحد أبرز مهامها في هذا الصدد ، توقع التغيرات و التحولات السياسية في المنطقة العربية ! و لنتبين مدى الثقل الاستراتيجي الذي تتمتع به هذه النوعية من المراكز البحثية ، فلنا أن نعلم أن الميزانيات المالية المقررة لها من أجل أدائها لأدوارها المطلوبة ، كمراكز بحث استراتيجي تتمدد أنشطته كوكبيا ، تقدر بملايين الدولارات ، كما أنها تضم نخبا من العقول ذات الخبرات المتنوعة ، حيث يكفي أن نذكر هنا أسماء بعض أهم أعضاء أحداها و هو مركز الدراسات الدولية و الاستراتيجية ، و الذي يضم 220 باحثا و خبيرا و مستشارا يعملون بدوام كامل ، أشهرهم : هنري كيسنجر ، زبجنيو بريزينسكي ، الجنرالات المتقاعدين : ويسلي كلارك ، جوزيف راليستون ، أنتوني زيني ، توماس بيكرينج ، الى جانب ايهودا باراك ! ما الدرس اذن ؟ ببساطة شديدة : وكما أن الانسان ” العادي ” لا يكاد يصدق الا ما يريد أن يصدقه ، مهما رأى من مؤشرات تبعده عما يعتبره صدقا و هو في الواقع مجرد زيف ، فاءن الأمر ذاته يكاد ينطبق أيضاعلى دول بأكملها ، و على أعلى مستوياتها ، تلك التي تضم في العادة أهم نخبها ! الأمثلة على ذلك كثيرة ، لعل أبرزها ما حدث في عام 1973 حينما وردت معلومات شبه مؤكدة من أطراف و مصادر موثوق بها للاسرائيليين عن استعداد مصر و سوريا للهجوم على اسرائيل ، الا أن عقولهم قد قاومت تصديق هذه المعلومات ، حتى حدث ما حدث على أرض ميدان المعركة . كذلك فاءن تقارير عديدة قد نشرت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر تفيد بأن جهات عدة قد حذرت من هذا الهجوم الوشيك ، الا أن العقلية الاستراتيجية الأمريكية فعلت مثلما فعلت نظيرتها الاسرائيلية في السابق و لم ترد أن تصدق هي الأخرى ! و في الراهن ، و رغم كم و نوع المؤشرات و كذا المعطيات المتراكمة منذ عقود و التي تشي باءنفجار الأوضاع في المنطقة العربية ، و رغم الامكانات الهائلة للمعرفة و التجسس على مجتمعاتنا التى كانت مستباحة بالكامل أمامهم ، فاءنهم لم يريدوا تصديق امكانية الحدوث ، خصوصا بهذه الكيفية . و أكاد أسمع بعضهم يقول لآخر : كيف يسقط نظامين عربيين بوليسيين و متسلطين بهذه السهولة و في أيام معدودة ؟! و أكاد لا أجد لهذه النوعية من العقليات الاستراتيجية ذات المستوى الرفيع كوكبيا من توصيف ملائم لحالتها تلك و التي تتمثل في مقاومتها لتصديق أن معطيات محددة بعينها من الممكن أن تفضي الى نتائج محددة بعينها أيضا ، الا في رغبتها ، و رغبة صانع القرار ذاته ، و هو المتعاطي مع منتجها بالأساس ، في عدم حدوث تغيير حقيقي و جذري في مكان ما من العالم مما قد يتسبب في الاضرار بمصالحها ، و تحديدا نخبة القوة داخلها ، أعني الولاياتالمتحدة و الغرب عموما ! انهم غير راغبين في تغيير استراتيجياتهم التي ارتاحوا و ركنوا اليها لزمن طويل ، لا يريدون شعوبا و مجتمعات واعية و ديمقراطية تحاسبهم ، بوصفهم قادة العالم ! ان التغيير الحالى في منطقتنا ، و لو تم بشكل كامل سيتسبب فعليا في تغيير أكاد اتوقعه جذريا على موازين القوى الدولية كافة ، حيث سيقلل من أنصبة نسبية للقوة لدول عظمي حالية لصالح أخرى تتبنى نهجا أكثر وضوحا و شفافية و عدالة على مستوى كوكبي . و سيأتي الوقت الذي سينكشف فيه حجم التواطؤ الدولي ، و المتسم بقدر غير متوقع من الفساد في تعامله مع نظم الحكم العميلة في منطقتنا بالكامل ، فضلا عن مناطق أخرى عديدة بالعالم ، ووقتها سنكون في صدد صياغة نظام عالمي جديد ، و ان يكن وفقا لقواعد و معايير ديمقراطية بحق ! خبير علم الاجتماع السياسي المركز القومي للبحوث الاجتماعية و الجنائية