اختار شاعر العامية الكبير جمال بخيت طريق البسطاء، وعبر عن معاناتهم، وتوحد مع أحلامهم, ليكون مثلهم, لم يتبقَّ منه سوى الإنسان الذي يكتب للوطن. يرى "بخيت" أن تجربة الراحل الكبير صلاح جاهين تم تجاوزها في نماذج وأسماء بارزة سلكت طريقا آخر مختلفا عمن سبقوها، وبالتالي كانت أصواتهم الشعرية مختلفة وقصائدهم مختلفة، ورغم اعتزازه الشديد بتجارب السابقين إلا أنه يرى أن قواعد الشعر لا تلغي أحدًا، وعندما ظهر في الساحة الشعرية في السبعينيات ووجدها ممتلئة بفطاحل شعر العامية في ذلك الوقت مثل "فؤاد حداد- صلاح جاهين- الأبنودي- سيد حجاب"، وكان لكل منهم طريقه الذي لا يشاركه فيه أحد، حاول هو الآخر أن يسلك طريقا مختلفا وأن يكون هو نفسه وألا يتشابه صوته مع أصواتهم، وعن أسباب تجاوز تجارب هؤلاء الكبار من وجهة نظره يقول بخيت:" الأسباب تعود إلى أن جاهين وحداد أسسا ما يسمى بالعامية المصرية، ولم يرددوا نفس القوالب والمعاني والألفاظ التي استخدمها من سبقوهم. وكان لبخيت رأي صادم في الأغنية العربية، فدائما ما كان يقول: "إننا نعيش في زمن الأغنية المهزومة"، بسبب المجتمع نفسه الذي كان يراه متراجعا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وبعد الثورات العربية لم يتغير رأي بخيت في الأغنية العربية، حيث يقول: إن نتائج الثورات لا تظهر في شهور، بل تحتاج إلى سنوات طويلة حتى تظهر نتائجها على كافة المستويات، وفي الوقت نفسه يقول: "إن كل العصور بها الفن الجيد والفن السيئ، وظهور الفن الهابط على المشهد الإعلامي لا يعني أن الفن الجيد غير موجود، ويوضح بخيت ذلك قائلا: "الهزيمة السياسية والاقتصادية تؤسس نظاما غير وطني، يختار النماذج السيئة ويقدمها، وهي معادلة ستظل قائمة حتى بعد ثورة يناير. وبيَّن أن المسافة بين مسحراتي حداد ومسحراتي العرب زمنية وكيفية، ولكل منهما تأثيرها الخاص في وجدان الشعوب العربية، فلمسحراتي العرب سياق سياسي له دلالة محددة يوضحها بأن الفكرة البسيطة للمسحراتي انتقلت عبر أجيال طويلة،هذا الفن الذي عرف في البداية بفن "القومة"، وعندما امتهن صفي الدين الحلي هذه المهنة وجد فيه وسيلة ليقول شيئا ما وليس مجرد المناداة على أسماء الناس لتناول الطعام، ووصل هذا الفن العربي إلى ذروته على يد فؤاد حداد الذيعبر من خلاله عن الحارة المصرية العتيقة، وقد حاولت الخروج من هذه الحارة التي عشقها حداد إلى الحارة العربية، لكي أؤكد على مجموعة رسائل موجودة بالفعل في الإبداع العربي كله، أهمها أننا شعب واحد يحيا في أقطار متعددة، وأن حل الكثير من مشاكلنا يتوقف على أن تقوم في هذه المنطقة دولة الوحدة العربية التي تجمع كل الأقطار العربية مع التمازج الكامل لكل الطوائف. ويضيف بخيت: "تلقيت مكالمات من 8 دول عربية بعد إذاعة القصيدة مباشرة وكانوا يبكون وهم يتحدثون رغم أن الجرح كان مصريا، فلم يحدث في أي دولة عربية مشهد طوابير العيش ولم يحدث في أي قطر عربي أيضا حريق قطر الصعيد فيالعيد، أو ما حدث في عبَّارة السلام"، وعن كتابة القصيدة يقول بخيت: إنه كتبها في ثمانية أشهر، ولم يكتبها لفيلم دكان شحاتة، ولكنه كتبها ليحكي فيها فساد 30 سنة في عهد مبارك، في ذروة الغضب مما يحدث في مصر،وعندما قامت الثورة ونزلت إلى ميدان التحرير قابلت الكثير من الشباب الذينأكدوا لي مدى صدق القصيدة ومدى قدرتها على تحريكهم وتحريضهم على النزول إلىميدان الثورة. ناصر والناصرية وأحلام أنتجت إبداعا حرك الصخر وقياسا إلى التحقيق الفعلي لهذه الأحلام على أرض الواقع مفارقة مؤسفة يفسرها مسحراتي العرب في عدة نقاط، حيث يقول: إن رحيل جمال عبد الناصر أدى إلى قيام ثورة مضادة، فقد كان الزعيم الملهم جمال عبد الناصر يحقق أجندة الوطنية المصرية والقومية العربية، ويناديبالوحدة العربية، وحقق مشروعات قومية عظيمة مثل "مشروع السد العالي وتأميم قناة السويس وقوانين الإصلاح الزراعي"، وكل هذه الإنجازات كانت أحلامًا مصرية على مر السنين، وبعد وفاته المباغته حدث انقلابعلى فكر الثورة، فشوهت الصحافة مشروع السد العالي رغم أنه أعظم مشروع في تاريخ مصر، والقطاع العام الذي أسس للطبقة الوسطي تم تشويهه أيضا، ما أدى إلى انهيار المشروع والحلم القومي. "لقد غنينا لفلسطين خمسين عاما.. فاحتلوا العراق"، بهذه العبارة يلخص بخيت رأيه في الغناء الوطني أو الغناء السياسي، حيث يقول إن الغناء الوطني أو السياسي غير قادرعلى تحريك الجماهير ما دام بمفرده، نحن أمة استمرت في الغناء حتى تحولالمشروع إلى أغنية دون تحقيق شيء على أرض الواقع، ويضيف: "عندما بدأ مشروع توشكي طلبوا مني كتابة أغنية وطنية، وفي ذلك الوقت لم يكن المشروع حقق أي شيء على أرض الواقع، فقلت لنفسي كيف أكتب عن شيء لم يتحقق بعد، فرفضت الكتابة. رغم تخوفات الكثير من المبدعين على حريتهم الفنية والإبداعية والجدل الذي دار حول قيام الإسلاميين بتقييد الحريات، إلا أن صاحب "مش باقي مني" لا يشعر بأي خطرعلى حرية الفكر والإبداع، فلا أحد يستطيع أن يكتم عبير الورد، وعلى مدار السنين والقرون والحرب ضد الإبداع مستمرة ومع ذلك ظل الفنانون يدافعون عن حريتهم، ومنهم من استشهد في سبيلها مثل فرج فودة الذي أصبحت أعماله جزءا من الضمير الإنساني. ختم بخيت حواره معنا بحديثه عن مشروعه القادم وهو تكوين فرقة موسيقية وطنية لا تقتصر على الغناء الوطني فقط بل الأغاني العاطفية أيضا.