على أنقاض الحلم القومي الجميل، لا بد أن نقف في هذه الذكرى التي تصادف 22 شباط/ فبراير حيث الجمهورية العربية الوحيدة التي ولدت من رحم الأمة ولم تضع حدودها اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية، كان ذلك حلماً ما كان ليصبح حقيقة لولا مرحلة المد القومي الذي أججها الزعيم الخالد جمال عبد الناصر في قلوب المؤمنين بالأمة العربية الواحدة وتكللت بميلاد هذه الجمهورية التي ما أن أُعلن عنها حتى بدأت الأيادي الملطخة بدماء الشعوب وتطلعاتها نحو الحرية والمساواة والوحدة تضرب بكل الاتجاهات لواد هذا المولود العظيم. لم تكن هذه الجمهورية محط ارتياح للدول المجاورة او للقوى الاستعمارية والأنظمة الرجعية التي تدور في فلكها، وإلا لما رأينا حتى روسيا الدولة الحليفة في ذلك الوقت تطلب من ناصر أن يترك سوريا وشأنها، هل حاول ناصر إعادة جناح الجمهورية الشمالي بعد انفصاله عام 61 وما هي مبررات الانفصاليين؟ وما هو الدور الذي لعبه البعث الاشتراكي الذي تخلى عن اشتراكيته ليقف ضد التأميم الذي فرضته قرارات الجمهورية العربية على سوريا حينها أسوة بمصر؟ يقول الانفصاليون: إن السوق السوري امتلأ بالعمالة المصرية وأن الشعب السوري الذي تعود على تعدد الاحزاب لم يستسغ حل كافة الأحزاب بما فيها البعث في سوريا، وقالوا: إن المخابرات كانت شديدة على الشعب مما ادى بالشعب السوري أن يثور ويطالب بالانفصال، قالوا الكثير وتجاهلوا القول الفصل وهو أن جمهورية بعمر سنة أو سنتين أو ثلاثة لن تصل للاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني بعد، في الوقت الذي تتعرض فيه المنطقة بأكملها لحملات ومؤامرات غربية استعمارية وأنه من الواجب أن ندفع ثمن تحقيق نجاحنا الأول، أفلا نضحي من أجل الوحدة. وللأمانة التاريخية أقول: إن الشعب السوري الشقيق كان في مقدمة الشعوب العربية متصدرا الصفوف لتحقيق الوحدة، وكانت سوريا بجغرافيتها تحت خطر حلف بغداد الذي كان حليفا لبريطانيا العظمى تلك الدولة التي شاركت بتقسيم الوطن العربي إلى دويلات حسب اتفاقية سايكس بيكو، وكذلك الخطر الصهيوني المحدق من جهة أخرى. ورغم ذلك كان السوريون يقفون بكل حزم دفاعا عن قضايا الامة العربية. لن ننسى موقف الحكومة السورية الشجاع أثناء العدوان الثلاثي على مصر عندما اعلنت الحكومة السورية حالة الطوارئ في أراضيها واتجهت وحدات من قواتها للمرابطة في الأردن بعدما عطلت خط الأنابيب الناقلة للبترول العراقي إلى الساحل اللبناني. وقد اضطرت هذه الوحدة للانسحاب من الأردن ابتداء من 24 نيسان/ابريل 1957 بعد تهديد أمريكا لسوريا علنا حينها. لم ترضخ الحكومة السورية للعزلة التي فرضها حلف بغداد ( العراق قبل ثورة تموز البعثية عام 58 وتركيا وإيران وباكستان) على هذا القطر بالرغم من وجود الكيان الصهيوني المعادي لها على الجبهة الجنوبية، بل اتجهت نحو الوحدة مع مصر لمجابهة التحديات الاستعمارية. أصر المفكر القومي الكبير مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي ميشيل عفلق على أن يتضمن الإعلان الوزاري لحكومة العسيلي في سوريا الدعوة للوحدة بين سوريا ومصر وذلك لمواجهة التهديدات المباشرة من قبل تركيا والعراق للقطر السوري في تلك الفترة، وبالفعل تم إعلان الاتحاد في 22شباط/ فبراير من عام 1958 على الصعيد الاقتصادي بدأت الجمهورية العربية المتحدة بالعمل الدؤوب في سوريا من اجل النهوض بالاقتصاد فكان التأميم وكان العمل على إنشاء سد الفرات الذي كان يراه ناصر رديفا لمشروع السد العالي وكان الدمج واستطاعت هذه الجمهورية ان توقف التهديدات الخارجية من قبل حلف بغداد للقطر السوري الشقيق. وما هي إلا اشهرا قليلة حتى بدأت أصوات نشاز تتلاعب بها رياح المؤامرات تسعى للانفصال، فالبعث العربي الاشتراكي لم يستسغ فكرة حل نفسه والتضحية من اجل سوريا والأمة العربية، ولا ادري لماذا أصر العديد من قيادات هذا الحزب على رفض حل الحزب طالما ان السياسة العليا للجمهورية المتحدة متوافقة مع أفكار هذا الحزب ومبادئه حينها والتي أهمها تحرير الأراضي المغتصبة واجتثاث يد الهيمنة الاستعمارية عن وطننا العربي والعمل من أجل وحدته. كان الانقلاب الانفصالي عام 1961 الخنجر المسموم الذي طعن الحلم العربي وأودى بأول جمهورية عربية أنشأت خارج منظومة سايكس بيكو. حاول ناصر 3 مرات أن يعيد الجناح الشمالي للجمهورية إلا أن المحاولات الثلاثة باءت بالفشل وبدأت مرحلة عصيبة على الناصريين في سوريا، وبدأ نظام المخابرات الانفصالي بأعماله الانتقامية. بعد فشل الإنزال لقوات الجمهورية العربية المتحدة في اللاذقية عام 61، حاول ناصر ثانية بعد أن عرض عليه اللواء جاسم علوان خطة عام 63 لاستعادة سوريا من الداخل ووافق عليها ناصر بالرغم من ان نسبة نجاحها لا تتعدى ال30% ، وبدأ ناصر يعد العدة لإعلان الوحدة من جديد في عيد الثورة عام 63، في حالة نجاحه أما في حالة الفشل فانه سيعلن انسحابه من اتفاقية الوحدة الثلاثية التي وقعها مع كل من العراق وسوريا بعد أن أدرك عبد الناصر ان حزب البعث في كل من سوريا والعراق يحاول كسب مزيد من الوقت لإقصاء الناصريين في كلا البلدين من أية مناصب قيادية. وبالفعل فشلت تلك العملية وأعلن عبد الناصر انسحابه من الوحدة وزُج بمئات الناصريين في سجن المزة بدمشق. لم تكن محاولة ناصر الثالثة بأفضل من سابقتيها، فيقول اللواء جادو عز الدين الذي كان من المفترض أن يقود العملية بتغطية جوية مصرية حيث سيدخل اللواء من العراق إلى سوريا، وأن اسباب عدول ناصر عن تنفيذ الخطة هو أن اللواء فؤاد شهاب رئيس الوزراء اللبناني قد أبلغ ناصر بان أمريكا قد علمت بهذا المحاولة وأنها تعد العدة لجر الجيش المصري إلى حرب استنزاف في سوريا وإعادة سيناريو اليمن. وهكذا فقد ذهب الحلم الجميل أدراج الرياح ولم يعد بعد رحيل ناصر لأي دولة عربية أن تسعى للوحدة أو تحاول غرس مفاهيم الوحدة الحقيقية بين ابناء الوطن العربي كطموح أساسي لحماية الوطن العربي والنهوض به وتحرير اقطاره من الهيمنة الغربية الاستعمارية. وها هم الاسلاميون الذين وقفوا ضد المشروع القومي منذ البداية يسيطرون على أقطار عربية وليس في جعبتهم اي مشروع وحدوي أو محاولات لتجاوز حدود سايكس بيكو الاستعمارية، وهذا يؤكد أن الامة العربية اليوم هي أحوج ما تكون للعودة للمشروع القومي على خطى ناصر لبدء مرحلة جدية تكون الوحدة هي الهدف الأسمى لتحقيق تطلعاتنا من المحيط الأطلسي غرباً إلى الخليج العربي شرقاً. Comment *