كان إحساسك صادقا حين تسرب إليك الخوف وتملكك الحزن فجأة لأنه لم يرد على اتصالاتك المتعددة وحين انتهى الأمر بغلق هاتفه تماماً، ساعتان مرتا منذ جئت الحديقة التى تلتقيان فيها ولم تكن مصادفة أن يكون اسمها "حديقة الحرية" فيها كان موعدكما الأول حين تسللتما من بين أصحابكما فى الميدان ومشيتما متجاورين على كوبرى قصر النيل، تلتقى أعينكما متلألئة بعاطفة نقية نقاء مياه النيل الذى كان شاهدا على أول لمسة لأناملكما البريئة، وعند نهاية الكوبرى شاهدتما الحديقة ومن ساعتها صارت أيكة حبكما ومعمل تكوين حلمكا الذى نما متوازيا مع حلم تحرر الوطن من الاستبداد والوهم الذى كاد أن يقضى على بكارة حلمكما الفتى كما قضى ووأد أحلام أجيال سابقة عليكما . منذ اعتصام التحرير إبان ثورة يناير 2011 وأنتما تلتقيان فى حديقة الحرية، ترسمان مستقبلكما وتخطان على العشب مسار حبكما الذى كان يقوى مع الخروج من كل نازلة أو عدوان على الثوار ، فى الحديقة بكيتما سويا مشهد البربرية يوم موقعة الجمل ،وتراقصتما فرحا يوم سقوط نظام مبارك – هكذا ظننتما وظننا جميعا – وبعد ذلك جلستما تكتبان شعارات التنديد بالعسكر وبالاستبداد المرتدي كاب، وحين وُضِعنا جميعاً فى حيرة الاختيار بين عودة النظام - ممثلا فى شفيق - وتجربة المحظورين - وممثلهم مرسى - الذين لطالما أظهروا الود والوطنية والذين تخفوا وراء ابتسامة صفراء لزجة، وفى الحديقة اختلفتما للمرة الأولى فهو كان مع إعطاء الفرصة لهم وعدم ترك أذناب مبارك يعودون وأنت كنت تحذرينه من المدعين وتذكرينه بأنهم أول من جلسوا مع عمر سليمان وأنهم تركوا الشباب يموتون برصاصات العسكر والشرطة فى محمد محمود وآووا إلى برلمانهم الأثير، وإنهم كذبوا مراراً منذ أعلنوا أنهم لن يرشحوا أحدا للرئاسة وكذبوا حين تاجروا بدم الشهيد، ويومها مضيتما غاضبين وتركك ولم يوصلك الى بيتك كما اعتدت ذلك منه، تركك فى محطة المترو واتخذ اتجاهها آخر. ولأنه يحبك كحبه للثورة،عاد ثانية إليك ومضيتما فرحين مستبشرين بالقادم لكن لم يدم الأمر طويلاً فلقد بدأ الكذب يسود وبدأ التكريس لاستبداد جديد واكتشفتما أن من يحكم الآن هو وجه آخر للنظام الذى ظننتما أنه سقط وأن نظام الإخوان هو نظام مبارك لكنه بلحية، واسيتما بعضكما وقررتما مواصلة الثورة وتعاهدتما على تنحية مشروعكما الخاص جانبا حتى تنجح الثورة وحتى يؤخذ القصاص لمن ماتوا بين يديكما من رفاق الميدان، وفى أحداث الاتحادية الأولى نجوتما بأعجوبة من جحافل الهمج وذبتما بعد ذلك فى أتون الغضب. ولقد تحديتما الجميع وفرضتما عليهم احترام مشاعركما وتقدير حبكما الذى مارستموه فى النور وكان الصدق سمته وعنوان ، حين كنتما تلتقيان كان التحضير لمسيرة أو لندوة او لمظاهرة واعتصام، نسيتما لفترات طويلة كلمات الغزل وصرتما تتغزلان فى الوطن وتستدعيان أغنيات الثورة، كان يقول لكي بأن عيناكى تعطيانه الأمل وكنت تؤكدين له بأن الثورة ستنتصر وبأن الدم لن يضيع هدرًا, واليوم تأخر على موعدكما ولم يرد على اتصالاتك المتكررة وحين أغلق الهاتف سرى إلى قلبك شعور ثقيل بخوف يقترب وبأن شيئاً ما يحد ، فى هذه اللحظة كان مقيداً مطروحاً على أرض صلبة جامدة كجمود من يعذبونه ويصعقونه منذ اختطفوه من فوق الكوبرى وهو متجه نحوك ، صرخ فيهم بأنه ليس مجرماً وبأن المجرم الحقيقي من يقتل ويسحل ويكذب ويتاجر بالوطن فزادوه ضرباً وتعذيباً، سب نظامهم الفاشى فضحكوا ..نعتهم بالخونة فصعقوا لسانه ،ضحك من ضعفهم وهو المقيد المختطف، ضحكوا فى هستيرية وزادوه تنكيلا ،قال له أحدهم: يجب أن تدفع ثمن الحلم وثمن الأمل، صرخ فيهم أنتم خونة الدم ولن تُتركوا بلا عقاب، ولأنهم لم يحتملوا قوته وصلابته - وهو المقيد المنكل به - ولأن تماسكه فضحهم أمام أنفسهم وأظهر ساديتهم وخنوعهم وانبطاحهم وعبوديتهم لكل نظام، قرروا إسكاته للأبد. ستنتظرينه طويلا أيتها الحبيبة الصغيرة، ستنتظرينه طويلا أيتها الحالمة الثائرة المؤمنة بهذا الوطن ، ستنتظرينه طويلا ولكنه لن يجيء، وحتى أذا استطعنا استعادة هذا الوطن ممن اختطفوه، فحبيبك لن يجيء ولن يعود وستظل دماءه معلقة فى رقابنا فلقد قتلناه جميعا وقتلنا حلمكما / حلمنا حين صرنا سذجا وصدقنا الكذبة وأسلمنا أمرنا للخونة المتاجرون بالدين والطين والتاريخ والزمن ، لن يجيء فضمى إلى صدرك الحزن والحلم والأمل وانعيه وانعي على قبره الوطن . ( إلى جيكا والجندى وكريستى )