لم تنطلِ أكاذيب بونابرت على المصريين، ولم يصدقوا إدعاءه الزائف برفع ظلم المماليك عنهم، ولم يقتنعوا بمحاباته المزعومة للمسلمين وإيمانه الظاهر بالقرآن، ولم ينخدعوا بتحالفه مع سليم الثالث الخليفة العثمانى، خاصة بعد الضرائب الباهظة التى فرضها الفرنسيون وهدمهم لكثير من المبانى الأثرية والمساجد وأبواب الحارات؛ بحجة تحصين القاهرة، وزادت الانتهاكات، ومارس الفرنسيون القهر والتعذيب لإخضاع المصريين، وقطعوا رواتب الأوقاف الخيرية عن مستحقيها من الفقراء، وفتشوا المنازل ونهبوها، وصادروا الخيول والجمال والسروج والسلاح، وانتهى بهم الحال إلى إعدام بعض القادة من بينهم الزعيم الوطنى، حاكم الاسكندرية وقتها، محمد كُريّم، فكان لا بد من انتفاض الشعب المصري بثورة تزيح هذا المحتل المخادع. تشكلت لجنة الثورة من ثلاثين عضوًا، وكان مقرها الأزهر، برئاسة الشيخ السادات، وأعلنوا رفضهم لانتهاكات الفرنسيين، وامتنعوا عن دفع الضرائب الباهظة التى فرضت عليهم، خاصة الضرائب التى فرضها الفرنسيون على العقارات؛ لإعادة بناء أسطولهم الذى دمره الإنجليز فى أبو قير. وفى 21 أكتوبر 1798 خرج الشيوخ يحشدون الناس من كل حدب وصوب، وفى لمح البصر اجتمع الآلاف، وبدأت الوفود تصل القاهرة من الأقاليم والقرى، وسار الناس إلى بيت القاضى إبراهيم أدهم، يطلبون منه أن يخرج معهم على نابليون، لكنه رفض، فانهالوا عليه ضربًا، ورجموه بالحجارة. وخرج الجنرال "ديبوى" حاكم القاهرة يحيط به عساكره؛ لردع الثوار، الذين حاصروه عند باب القصيرين، ونشبت معركة كبيرة، قتل فيها الثوار الجنرال "ديبوى" والكابتن "مورى"، وعين نابليون الجنرال "بون" حاكمًا جديدًا للقاهرة. فيما سيطر الثوار على معظم مداخل القاهرة، ك "باب الفتوح وباب النصر والبرقية وباب زويلة وباب الشعرية"، وقاموا بهدم مصاطب الدكاكين، واستخدموا أحجارها لنصب المتاريس، وتجمعوا فى الجامع الأزهر، وأغلقوا كل الشوارع والحارات والأزقة المؤدية إليه لتحصين مركز الثورة. بينما نصب الفرنسيون أثناء الليل مدافعهم على جبل المقطم قرب القلعة. وفي صباح اليوم التالى بدأ الثوار فى الهجوم على الكتائب الفرنسية، في حين نشر نابليون جنوده حول ضواحى القاهرة؛ لمنع أهلها من الانضمام للثوار، وبعث يطلب مقابلة المشايخ، لكن لم يجبه أحد. وفى العصر بدأت مدافع نابليون فى قصف القاهرة، وغالى فى قصف الأزهر والمناطق المحيطة به، ولم يكن الناس قد رأوا مثل هذا القصف النارى من قبل. يقول الجبرتى فى وصف المشهد: "فلما سقط عليهم ذلك ورأوه ولم يكونوا في عمرهم عاينوه، نادوا يا سلام من هذه الآلام! يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف! وهربوا من كل سوق، ودخلوا في الشقوق، وتتابع الرمي من القلعة والكيمان حتى تزعزعت الأركان، وهدمت في مرورها حيطان الدور وسقطت في بعض القصور، ونزلت في البيوت والوكائل وأصمت الآذان بصوتها الهائل". وفى اليوم الثالث اقتحم الفرنسيون منطقة الأزهر، التى أصبحت كومة رماد من أثر القصف، ورقد الآلاف من الثوار الأحرار تحت الأنقاض، ودخل الفرنسيون الأزهر بالخيول، ونهبوا البيوت المحيطة بالأزهر؛ بحجة البحث عن السلاح، وألقوا القبض على أعداد غفيرة، نفذوا فيهم جميعًا أحكام الإعدام، وقال نابليون حينها إن كل المقبوض عليهم هم ثمانون شخصًا، سجنوا بالقلعة، ونفذ فيهم حكم الإعدام. لكن سكرتير نابليون كتب فى مذكراته أنه كان يصدق على أحكام الإعدام، وتنفذ، ثم تحمل الجثث فى "زكائب"، وتلقى فى النيل. بلغ عدد ضحايا الثورة ما يقارب الأربعة آلاف، من بينهم ثلاثة عشر عالمًا من كبار علماء الأزهر، وأبرزهم الشيخ سليمان الجوسقى، شيخ طائفة العميان، والشيخ عبد الوهاب الشبراوى. وجاء فى كتب المؤرخين الفرنسيين أن المصريين من أبناء الطبقة الوسطى قاموا بحماية علماء الحملة الفرنسية، الذين سكنوا فى وسط المصريين بالأحياء القديمة، كالناصرية والسيدة زينب، حيث يوجد المجمع العلمى بقصر حسن بك كاشف (المدرسة السنية الآن). ورغم أن الثورة بدا أنها انهزمت سريعًا؛ إذ لم تصمد أكثر من ثلاثة أيام أمام التفوق العسكرى الفرنسى، إلا أن صداها قد انتقل كالريح إلى كل ربوع المحروسة، وبدأت المقاومة تنتقل من قرية إلى قرية، ومن حي إلى حي، ومعها يزداد ظلم واضطهاد قوات الاحتلال وقمعها للمقاومة يومًا بعد يوم، إلى أن قامت ثورة القاهرة الثانية فى مارس 1800، والتي قام فيها الجنرال كليبر بجريمة إنسانية وتاريخية بإحراق القاهرة. أخبار مصر – ثقافة - البديل قام المصريون بحماية علماء الحملة الفرنسية بلغ عدد ضحايا الثورة أربعة آلاف، منهم ثلاثة عشر عالمًا من كبار علماء الأزهر.. وكانت الجثث تحمل فى "زكائب"، وتلقى فى النيل