لم تقف طموحات نابليون بونابرت عند حد اكتساحه للحلفاء في أوروبا وتهديده للنمسا وإيطاليا فنقل جبهة القتال إلى الشرق في مصر ليقطع الطريق بين انجلترا ومستعمراتها في الهند، وقد رأى أن مصر الضائعة ما بين جشع وضعف السلاطين العثمانيين وصراعات أمراء المماليك يمكن أن تقع بسهولة أسيرة في قبضته ليبني على أساساتها العريقة قاعدة له في الشرق، ولكن مع هروب المماليك اصطدمت قوات الحملة بالمقاومة الصلبة خاصة في الإسكندرية والمنطقة الواقعة بين المنصورة ودمياط ، وقد برزت في خضم المقاومة أسماء لزعماء مصريين تحدوا الاحتلال الفرنسي وقاوموه حتى الموت أو النفي مثل "محمد كريم" و "حسن طوبار" وكثير غيرهم ممن نسيهم التاريخ. وبعد إحراز الفرنسيين للانتصار تم احتلال القاهرة وقد اعتقد نابليون أن كراهية المصريين للأتراك والمماليك ستؤدي إلى الترحيب بالفرنسيين أو على الأقل لن يكون هناك أي مقاومة من المصريين للحُكم الفرنسي الذي قدم نفسه إليهم على أنه المُنقذ من جحيم المماليك، وبالرغم من إعلان بونابرت أن غرضه الأول هو سعادة الشعب المصري واحترام شعائره الدينية وأمواله بدأ في مصادرة الأملاك وخاصة البيوت بحجة احتياجهم لها، وهدم الكثير من المباني والأثار والمساجد لتحصين القاهرة وأمر سكان القلعة بالخروج من منازلهم والنزول إلى المدينة لنصب المدافع في القلعة وتركيزها بعدة مواضع بعد هدم أبنية كثيرة بها ومحو ما كان بها من معالم السلاطين وآثار الحُكماء والعظماء وهدم أبواب الحارات مما أثار سخط المصريين، وتم قطع رواتب الأوقاف الخيرية عن مستحقيها من الفقراء، والقيام بتفتيش المنازل ومصادرة الخيول والسروج والجمال والأبقار والثيران والسلاح أو دفع مقابل عنها. إلى جانب كل هذه الاجراءات دعا بونابرت العلماء والأعيان إلى تكوين ديوان من المشايخ والعلماء يختص بالأمن العام والتموين والصحة، وعلى الرغم من أن الديوان كان ذو صفة استشارية ولم يكن له فعلياً أي سلطة إلا أنه ساهم في بلورة قيادة شعبية مصرية متمسكة بحقها في إدارة البلاد . وقد عطل نابليون اجتماعات الديوان بعد أن اصطدم به أعضاءه أنفسهم مُعلنين رفضهم هذا الكم الهائل من الضرائب الباهظة وخاصة ضرائب العقارات التي فرضها الفرنسيون والتي ازدادت بعد أن دمر الإنجليز أسطولهم في أبوقير في محاولة لإعادة بناء أسطولهم مرة أخرى وإعادة تمويل جيش الحملة على حساب المصريين وقد أثارت تلك الضرائب سخط المصريين بجميع فئاتهم وطوائفهم، مما فجر براكين الغضب الكامنة في نفوس المصريين، حيث كان من أهم أسباب الثورة قيام الفرنسيين بفرض الضرائب الباهظة خاصة على التجار عكس ما وعد به نابليون عند قدومه لمصر، وتفتيش المنازل والمتاجر بحثاً عن أموال، وهدم بوابات الشوارع والحارات لتسهيل مُطاردة رجال المقاومة وهدم المباني المساجد بحجة تحصين المدينة. وجاء الرد سريعاً في 21 اكتوبر 1798 عندما انطلقت شرارة الغضب، فتجمعت جموع غفيرة من الناس واتجهت إلى بيت القاضى ليخرج معهم إلى بونابرت لمُطالبته بإلغاء الضرائب الجديدة، وقاد الأزهر وشيوخه ثورة القاهرة الأولى في أكتوبر عام 1798م، فقد كان للأزهر الشريف دور بارز في مقاومة حملة نابليون بونابرت على مصر بقيادة الشيخ السادات، وقام التجار بتمويلها وأقيمت المتاريس في المدن. بدأت ثورة القاهرة الأولى يوم الأحد21 أكتوبر1798 بقيام بعض مشايخ الأزهر بدعوة الناس لحماية الأزهر من الغزاة، وبدأوا ينادون في المدينة "إن كل مؤمن موحد بالله عليه بجامع الأزهر لأن اليوم ينبغي لنا أن نواجه فيه الكفار"، وقد بدأت أحداث الثورة في السادسة صباحاً عقب ترديد المؤذنين نداءات الثورة من فوق المآذن وانطلق بعض الثوار في الشوارع يعلنون الثورة ويطالبون الناس بالتوجه للأزهر الذي تحول إلى مقر قيادة الثورة. وتم تشكيل مجموعات مسلحة ببنادق عتيقة وبالعصي والسكاكين وأخذت تقيم المتاريس وتقف من خلفها، وبدأت تتقاطر إلى القاهرة جموع شعبية من الضواحي القريبة لتشترك في الثورة، وقد أحس الفرنسيون بالخطر منذ الساعات الأولي للصباح وأبلغوا نابليون بذلك، إلا أنه اعتقد أنه عمل تافه غير خطير.. وتوجه ومعه بعض قواده لتفقد بعض التحصينات في الروضة ومصر القديمة، وبدأت القوات الفرنسية في التجمع لمواجهة الخطر. احتشد بالأزهر العلماء والجموع الغفيرة وعمت الثورة أنحاء القاهرة في لمح البصر ونظراً لأن الفرنسيين لم يتوقعوا قيام المصريين بثورة فقد خرج الجنرال "ديبوى" حاكم القاهرة مع بعض عساكره لتهدئة الأحوال وذهب إلى بيت القاضي ففوجئ بكم البشر الهائج فهجم عليه الثوار وقتلوه كما قتل الكثير من فرسانه، وسيطر الثوار على معظم مداخل القاهرة مثل "باب الفتوح" و "باب النصر" و "البرقية" و "باب زويلة" و "باب الشعرية"، وقاموا بهدم مساطب الدكاكين لاستخدام أحجارها كمتاريس تعوق هجوم العدو، وبعد أن أدرك الفرنسيين اندلاع الثورة بمقتل الجنرال "ديبوى" بدأ الهجوم على الثوار بإطلاق النار على الناس في الشوارع وخلف المتاريس فتجمع الثوار في الأزهر ونصبوا المتاريس في الطرق والحارات والأزقة المؤدية إليه لتحصين مركز الثورة، وقد انضم إلى صفوف الثوار أهالي القرى المجاورة للقاهرة، وخلال الأحداث هوجمت دكاكين التجار وسرقت محتوياتها. وفي يوم الاثنين22 أكتوبر استؤنف القتال في الشوارع وسقط المزيد من القتلى، وكان الثوار يتمتعون ببسالة شديدة حيث كانوا يهاجمون المدافع الفرنسية بأدوات بسيطة جداً كالعصي والنبابيت، وعند الظهر بدأت المدفعية الثقيلة ومدافع الهاوتزر والمورتار تصب سيلاً من قنابلها على الأحياء الثائرة، وبدأ الجنود الفرنسيون يتقدمون تحت ستار من نيران المدفعية ليحتلوا أحياء الثورة واستمر ضرب المدفعية حتى المساء، وقد بدأ نابليون خطته في خنق الثورة بنشر جنوده حول ضواحي القاهرة لمنع أهلها من الانضمام إلى صفوف الثوار، وقصف القاهرة بالمدافع المنصوبة بالقلعة وخاصة الأزهر مركز الثورة والأماكن المحيطة به، وبعد توسط المشايخ لإيقاف هذا القصف أمر نابليون بايقافه وقد استمر الثوار في الحسينية وما حولها في المقاومة حتى نفذت ذخيرتهم. وبدأت مجموعات من الثوار تهاجم مراكز الفرنسيين وخصوصاً مقر قيادتهم في الأزبكية.. ومُهاجمة باقي المراكز والدوريات، وبالفعل نجح الثوار في احتلال القسم الأكبر من القاهرة وبدأ عدد القتلي من الطرفين يتزايد في الشوارع نتيجة المعارك الدامية، وسقط اللواء "سولكوفسكي" ياور نابليون وعدد كبير من الجنود الفرنسيين، وقاتل الثوار من وراء المتاريس ومن شرفات المنازل. ولما اشتد غضب الثوار ضد الفرنسيين حاول نابليون وقف الثورة وأرسل مشايخ الديوان والعلماء الكبار ليطلبوا من الثوار وقف الثورة فرفضوا واتهموهم بأنهم صاروا أدوات في يد الفرنسيين وأعلنوا تصميمهم على مواصلة القتال. وحين تأكد نابليون من فشل هذه المساعي بدأ يضع خطة القضاء على الثورة، فأرسل بقواته وطوقت القاهرة لتمنع المتطوعين القادمين من الأقاليم للاشتراك في الثورة، وأصدر أوامره بضرب القاهرة من فوق القلعة بالقنابل للقضاء على الثورة بعد أن خسر الفرنسيون كثيراً في معارك الشوارع التي لم يألفوها من قبل، وفي نفس الوقت كان الثوار يستعدون لليوم التالي من أيام الثورة. وفى اليوم الثالث دخل الفرنسيون منطقة الأزهر التي خربها القصف ومات تحت انقاضها الآلاف، وهدموا المتاريس ودخلوا الجامع الأزهر بخيولهم وحطموا كل ما وجدوه في طريقهم ،ونهبوا البيوت المُحيطة بحجة البحث عن الأسلحة، ثم بدأ الانتقام بالقبض على أعداد غفيرة نفذ فيهم جميعاً حُكم الإعدام، وكان بينهم الكثير من النساء وقد اعترف سكرتير نابليون في مذكراته أنه كان يتولى التصديق على أحكام الإعدام، وبعد تنفيذ الحُكم كانت توضع الجثث في زكائب ويتم إغراقها في النيل، وقد أعلن نابليون أنه تم القبض على 80 شخصاُ هم قيادات الثورة سجنوا بالقلعة ثم نفذ بهم حُكم الإعدام بدون محاكمة، وكان من ضمن الضحايا الشيخ عبد الوهاب الشبراوي من أهم علماء الأزهر والشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان وقد قتل من علماء مصر ثلاثة عشر عالماً وبلغ عدد ضحايا الثورة ما يقرب من 4000 في مقابل 200 فرنسي بينهم بعض المهندسين الذين استفزوا أثناء تحصينهم مدينة القاهرة مشاعر المصريين بهدمهم للبيوت وخلع الأبواب ونبش القبور فقتل أثناء الثورة كبير مهندسي الحملة "تستيفود"الذي كان يعمل برسم خريطة حديثة لمصر وأيضاً قتل بعض الجراحين والرسام "دوبرى". ورغم أن الثورة استمرت ثلاثة أيام فقط وانهزمت أمام التفوق العسكري الفرنسي إلا أن صداها قد انتقل من القاهرة إلى باقى أنحاء مصر وبخاصة القرى المجاورة للقاهرة والتي شاركت في الثورة بالرجال والسلاح والتي نالت أيضا حظها من القمع بالاعتقال والقتل مثل ما حدث للشيخ سليمان الشواربي شيخ قليوب الذي اعتقل بالقلعة ثم قتل، كما تم اعتقال بعض الزعماء كرهائن، ولم تسلم القرى الواقعة على النيل من أذى الفرنسيين فأحرقت قرية كاملة من قرى امبابة بعد تهجير أهلها، بسبب إطلاق تلك القرى الرصاص على السفن الفرنسية، واستمرت المقاومة تصهر الشعب وتمنحه الثقة بقوته التي أهدرت عقود طويلة تحت حُكم الأتراك والمماليك حتى جاءت ثورة القاهرة الثانية في مارس 1800 واستمرت شهر كامل ولم تهنأ الحملة ببقائها في مصر وظلت تنزف تحت ضربات الإنجليز والأتراك والمقاومة المصرية حتى الجلاء في 1801.