استعرضنا فى المقالتين السابقتين مفهوم الحاكمية وأن فريقا من الإسلامين نفى بشرية الحكم فاقترب بذلك من معنى الكهنوت والسلطة الدينية والحكم بالحق الإلهي كما كان عليه الحال في الدولة الكنسية الغربية في العصور الوسطى وفى هذا المقال سنوضح مفهوما آخر يقترب كثيراً من مفهوم الحاكمية ولكنه سيطر على الفكر السياسى الغربى من القرن السادس عشر تحديداً، وهو مفهوم السيادة الذى وضعه فريقاً من المفكرين فى مقابل فكرة الحاكمية كنقيض لايقبل أى مصالحة .. وقد نشأت فكرة السيادة نتيجة الصراع الذي جرى في القرن السادس عشر الميلادي في فرنسا بين الملوك من جهة، والإقطاعيين والباباوات من جهة أخرى، فكانت هذه النظرية سنداً فكرياً للملوك لفرض سيطرتهم الداخلية ضد الأمراء الإقطاعيين، ولفرض سيطرتهم الخارجية ضد الإمبراطور والبابا، وإذا كانت الكنيسة تتمتع بنظرية الحق الإلهي لشرعنة طاعتها وخضوع الناس لها، فإن الملوك اتخذوا نظرية السيادة سنداً شرعياً لفرض طاعتهم، حيث صار الانضواء تحت الملك في تلك الحقبة عند عدد من الفلاسفة طوق نجاة للخلاص من التشرذم والانقسام الذي أحدثته الحروب الدينية، ثم تحولت السيادة بعد ذلك فانتقلت من الملك إلى الأمة على يد الثورة الفرنسية. والسيادة بمعنى كونها السلطة العليا التي لها حق إصدار القوانين وإلزام الناس بها جميعاً من دون أن تكون مقيدة بشيء ولا أن تستمد مشروعيتها من أحد، فهي سلطة واحدة مطلقة مقدسة.، ولعل هذا التعريف الشائع هو الذى أحدث هذا الصدام الذهنى وبالتدقيق فى مفهوم السيادة وفى التطور التاريخى لمفهومها يتضح أنه خلافاً اصطلاحياً ذهنياً فقط ولم يكن فى حاجة إلى كل هذا الصراع الفكرى، فمن ناحية التطور التاريخى للمفهوم فهو نشأ في ظل ظرف تاريخي واجتماعي مختلف، وبغرض تحقيق هدف معين، فى حين أن المجتمع الإسلامى لا يعاني إشكالية الإقطاع ولا إشكالية السلطة الدينية التي كانت تسود التاريخ الأوروبي، خصوصاً أن النظرية الإسلامية لا تعرف مثل هذه السلطة المطلقة، وإنما السلطة طبقاً لها ترد عليها قيود مهمة لا تمنحها هكذا لأى فرد أو هيئة أو جماعة . ومع كون المسألة صراع ذهنى واصطلاحى فى المقام الأول إلا أن المفكرين قد انقسموا إلى فريقين: الأول يرى أن السيادة في الدولة الإسلامية لله أو للشريعة الإسلامية) وصاغ ذلك كلا من المودودى وقطب فى مصطلح الحاكمية راجع المقاله الثانية (الحاكمية والجذور). وفريق ثانى يرى أن السيادة أو مصدر السلطات هو للأمة. وإمكانية التوفيق ممكنة للغاية ذلك إن توفرت النوايا الصادقة للتوفيق وعدم سعى الفريقين للحشد خلف الاصطلاحات لإحداث أكبر قدر من الاستقطاب الممكن لتحقيق مكاسب سياسية وحزبية ضيقة على جثة وطن يحتضر ....! فللأمة سلطة في اختيار الحكومة التي تتولى أمرها، ولها سلطة على مراقبتها ومحاسبتها وخلعها، وليس لأحد أن يفرض على الأمة ما لا تريد، غير أن هذه السلطة والسيادة مقيدة بحدود الشريعة الإسلامية، فلا تستطيع أن تخالفها، ولا مشروعية لهذه المخالفة، فهذه السيادة محكومة قانوناً بسيادة وسلطة أعلى منها نعم فإن السيادة للأمة مقيدة لصالح سيادة أسمى وأعلى منها مرتبة وهي سيادة التشريع المنزل من عند الله ذلك فيما كان فيه نص منزل قطعى الثبوت والدلالة وإلا فالاجتهاد البشرى الغير مقدس والقابل للطعن والاستبدال والمتجدد بتجدد الأحوال والأزمان ولكن يبدو أن المشكلة أساسا كانت فى تقديس ما ليس بمقدس من اجتهادات بشرية تقبل النقد والخطأ لصالح سلطة زمنية أخذت تتلاعب بالنصوص المقدسة وتحشوها بهذه الاجتهادات البشرية المنافحة عن استبدادها وديكتاتوريتها . فإن السلطة في النظام الإسلامي تخضع لقانون هو شريعة عامة لا يملك الحكام مخالفتها ولا تملك الأمة ذاتها تعديلها أو تبديلها، وبذلك كانت الدولة الإسلامية التي أقيمت في القرن السابع الميلادي أول دولة قانونية دستورية بالمعنى الصحيح وإنما السلطة للأمة تعطيها لجماعة بقيود، فليست سلطة مطلقة، وإنما مقيدة بقيود مهمة شرعية ورقابية وتأهيلية ..فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما يقول على المنبر:- "إذا أصبت فأعينوني، وإذا أخطأت فقوموني"، فقال له رجل من بين الناس: "إذا أخطأت قومناك بسيوفنا..!" فهو إذن حكم مدنى لا يدعى عصمة إلهية هذا من جهة الحاكم ( الذى ينبغى أن يكون) وفى ذات الوقت فإن الشعب لا يستطيع تبديل وتعديل هذه القواعد؛ لأنها ليست من صنعه، وإن كان قد ارتضى الخضوع لها والإيمان بها. ومصدر سلطة الحاكم الأعلى في الدولة مستمدة من الشورى السياسية هذه أو الانتخاب الحر، ونعني بالسلطة هنا سلطة تنفيذ شرع الله بما يستلزمه ذلك من الاجتهاد التشريعي فيما لا نص فيه بالتفريع على مبادئه والمصالح الجدية الحقيقية المعتبرة والحقيقة.. هل بعد ذلك من ثمة خلاف بين مفهوم الحاكمية إن أوكلتها للاجتهادات البشرية الغير مقدسة بما لا يناقض النص المقدس القطعى ومفهوم السيادة إن كانت الأمة مصدر السلطات والسلطات بما تنتجه من ممارسات مؤطرة بإطار إلهى هل من ثمة خلاف ؟!! إن مثار الخلاف كان للتشبث بألفاظ دون النظر لمضامينها ولو كنا قد ألتفتنا إلى المضمون ما ضاعت كل هذه الأوقات وأهدرت كل هذه الأرواح فما الضير إذا تم استبدال لفظة الخلافة بأى مصطلح حديث من مصطلحات أنظمة الحكم ؟ أو العكس ؟ وكذلك مفهوم البيعة بآلية صندوق الانتخابات؟ وأهل الحل والعقد بمفهوم المجالس النيابية المنتخبة وهكذا ؟ كانت عبادة للألفاظ البراقة من كلا الطرفين للحشد والاستهلاك السياسى والحزبى ضاعت فيها أعمار طويلة من عمر الأمة. وبعد هذا العرض ألا يمكن إحداث التصالح بين المصطلحين السيادة والحاكمية بوضع كلاهما فى سياقه التاريخى والدلالى . Comment *