الحرية كلمة جميلة الوقع على السمع، يتمسك بها الطفل دون أن يفهمها، ويعتبر الملايين حياتهم رخيصة من أجلها فمات ولا زال يموت فداءها الكثيرون فى أنحاء العالم، نادت بها بلدان وشعوب أفنت حياتها فى ثورات وانتفاضات بحثاً عنها، وفى شعوبنا العربية لا زلنا نتخبط كثيراً فى معرفتها، فبين من يتشدق بها زوراً وبين من يطلبها بالحق، بين هذا وذاك تراق دماء وتزهق أرواح، علَّ القائمين على إدارة أوطاننا يستشعرون قيمتها فى نفوس من يضحون لأجلها. تقول مارى - جان رولان ده لاپلاتيير والتى تعرف باسم "مدام رولان" 1754 - 1793"، والتى كانت تعمل مستشارًا سياسيًا لجماعة الجيرونديين أثناء الثورة الفرنسية تقول: "أيتها الحرية الحبيبة.. كم من جرائم ارتكبت باسمك". والحرية تشمل كل ما يتعلق بمناحى الحياة بدءًا من حرية الحياة والاعتقاد والثقافة والتنقل بجانب الحريات السياسية والاجتماعية، التى تركز على الديمقراطية والمساواة والوقوف ضد الظلم والحرمان والعنصرية وانتهاء بسلوكياتنا الشخصية، ومن بين تعريفات الحرية المرتبطة بالجانب الشخصى: "أنها التعبير الواقعى عن الشخصية بكاملها، فليست الحرية فقط أى تصرف بمعزل عن أى ضغط خارجى مباشر، يملى على الشخص التصرف وفق سلوك معين ، فهذا ليس إلا الوجه الخارجى للحرية ، ولكن الحرية بمعناها العميق، هى التصرف بحيث يأتى السلوك تعبيراً عن الكيان كله ، وليس عن جزء من الشخصية يتحكم فى الشخص، دون بقية الأجزاء . وقد نصت الأديان السماوية بل والوضعية أيضاً على أهمية الحرية كأساس لحياة الإنسان على الأرض، ولعل ارتباط اختلاف مفهومها فى الدين الإسلامى عنه فى المسيحى بعقيدة كل دين أكثر من ارتباط تعريفها بالحرية ذاتها. أى إنها فى كلا الديانتين هى أن الإنسان خلق كصورة الله فى الأرض، وهو فى الأصل حر، ففى الإسلام واقعة توضح أهمية الحرية فى القرار والاختيار : في السنة الثامنة من الهجرة نصر الله النبى محمدا- صلى الله عليه وسلم- على كفار "قريش ودخل النبي- " ص " - "مكةالمكرمة " فاتحًا منتصرًا، وأمام الكعبة وقف جميع أهل "مكة ، وقد امتلأت قلوبهم رعبًا وهلعًا وهم يفكرون في حيرة وقلق فيما سيفعله معهم رسول الله - ص- بعد أن تمكن منهم ، ونصره الله عليهم ، وهم الذين آذوه ، وأهالوا التراب على رأسه وهو ساجد ، بل وتآمروا عليه بالقتل ، وعذبوا أصحابه أشد العذاب ، وسلبوا أموالهم، وديارهم ، وأجلوهم عن بلادهم ، لكن الرسول " ص " قابل كل تلك الإساءات بالعفو والصفح والحلم قائلاً : " يامعشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟" قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم"، فقال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". فالحرية هنا لم تكن مجرد ردة فعل بل كانت فعل مصحوباً بالتسامح والنبل والقيم الحميدة. والأمر نفسه فى فإنها ترى أن الإنسان خلق حراً، على صورة الله ومثاله، وهذه الحرية لها شقان: حرية الاختيار وحرية الفعل ولعل هاتان الآياتان تلخص مفهوم الحرية فى المسيحية : " من يعمل الخطية هو عبد للخطية" لو8/34 وأيضاً قال يسوع: "إن حرركم الابن فبالحقيقة تصيرون أحراراً"؛ أى أن الحرية فى المسيحية تتطلب التنقى من الخطية التى تمثل العائق الأوحد لها فالخطية هى المشكلة الأولى أمام الحرية الداخلية، وبالتالى أمام كل أنواع الحريات ، ثم التشبه بالمسيح وبفضائله فيصبح الإنسان المسيحى غير مقيد بأية قيود داخلية تربطه بالعالم. يقول القديس أغسطينوس : " جلست على قمة العالم حين صرت لا أخاف شيئاً ولا أشتهى شيئاً " ، أى أن الحرية فى المسيحية وثيقة الصلة بالفضيلة والعفة والتشبه بالسيد المسيح وليست انحرافية خالية من المسئولية كما يتصور البعض، وحينما يسكن المسيح فى الداخل ويكون هو الملك والمسيطر، تهدأ الرياح ويهرب الظلام، ويصير الإنسان حراً من كل قيد، فيرتفع تلقائياً فوق قمة العالم حينما تنفك كل قيوده. ويتضح هذا الأمر من خلال الاّية: "لا تصيروا الحرية فرصة للجسد" (غل 13:5)؛ أى عدم استغلال هذه الحرية لمصلحة الجسد بل لمصلحة الروح. وأيضاً: "كنتم عبيداً للخطية ولكنكم أطعتم من القلب صورة التعليم التى تسلمتوها، وإذ أعتقتم من الخطية صرتم عبيداً للبر". وتريد المسيحية أن تصل بالشخص المسيحى لحالة التحرر من كافة القيود الداخلية المتمثلة الخطية بمخاوفها ونتائجها السلبية. كما أن كل إله وهمى يتعبد له الإنسان داخلياً، هو قيد على حريتنا فى المسيح سواء شهوة، أو مركز، أو أى شيء من ممتلكات هذا العالم. فنجد فى الاّية: "إذاً يا أحبائى لم نأخذ روح العبودية أيضاً للخوف بل أخذنا روح التبنى الذى به نصرخ يا أبا الآب.. الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله" (رو 15:8،16). ما يفسر لنا لماذا الخوف والخطية هو عدو الوصول للحرية فى الحياة المسيحية، وذلك لأن الله روح حر يريد للإنسان أن يصير كائناً يمسك بيده زمام أموره، ولا يتجاهل طاقاته الغريزية بل يوجهها ويوظفها وفق خيره وخير الآخرين. وبحسب المسيحية - فإن الله يحترم حرية الإنسان لأنه يحبه، والمحبة الحقة تحترم حرية المحبوب، والحب لا يفرض فرضاً، وإلا لم يعد حباً بل عبودية، والله لم يرد عبيداً بل أبناء، وهو يريدنا أحراراً نتمتع بالشركة معه. البديل-اخبار Comment *