لماذا لا يقرأ القرد؟.. كان هذا سؤالاً محورياً سأله أحد أصدقائي ونحن جالسون في مقهى، لا أعرف ماذا كان يقصد من سؤاله؟، وما هو الموضوع الذي كان يتحدث فيه الجالسون؟، فقد أصبحت في الآونة الأخيرة دائم الشرود والتفكير حتى أثناء مجالسة أصدقائي، ودائماً ما أجد نفسي فجأة وسط حوار أو حديث لم أتابعه منذ بدايته، على العموم أحاول جاهداً التخلص من هذا السلوك الجديد على شخصيتي وربنا يعينني. ولكن وسط هذا الحديث الذي كنت شارداً خلاله، رن بأذني هذا التساؤل كأنه أيقظني من سبات!: "لماذا لا يقرأ القرد؟".. أخذت السؤال وعدت لشرودي فوراً دون أن أستمع لباقي الحوار، وبدأت أحدث نفسي في حواري الخاص: القرد لا يقرأ لأنه ببساطة لا يعقل.. فالقراءة وحدها لا تصنع العقل، وإنما العقل هو الذي يترجم القراءة فوراً إلى استنباطات وأحكام وتدابير وتساؤلات مركبة. كلام معقد ؟؟ وبتاع اللي بيحبوا يعوجوا لسانهم ويعملوا مثقفين .. صح؟ طيب نتكلم زي الناس. خلينا نفكر بشكل تاني لو أرادت القردة أن تؤسس دولة وتضع نظاماً للحكم، فبالتأكيد أكثر القردة مهارة سيأتي بكتب الآدميين الذين أسسوا دولاً وحضارات، ثم يقرأها ويبدأ في رسم دولة أحلامه التي تشبه دولة البشر، ولكنه سرعان ما سيرى أنه يبني بنياناً ضخماً من الوهم ينهار بعد لحظات من بنائه ومع أول نسمة ريح أو هزة أرضية.. ذلك ببساطة لأنه لم يعقل وفقط كان ينقل. حينما تريد أي أمة أو أي مجموعة من البشر النهضة وتأسيس مجتمع صالح ناجح متطور، عليها أن تبدأ في إعمال العقل، لا أن تبدأ فورا في النقل.. فالعقل سيد النقل. ومأساة مصرنا الحبيبة العظيمة الآن، أننا عشنا فترات تاريخية عصيبة، حركت مشاعر غضبنا، فانهال شبابنا تحطيماً في الفساد والطغيان ثائرا بكل ما تحمله الثورات الباسلة والمثالية من معان. وبعد هذا التحطيم توقف هذا الشباب.. ناظراً ببريق عينه اللامع لما حوله، مندهشا بما حققه، مرتعشا من شدة النشوة، واقترابه اللصيق من تحقيق حلمه، ولكنه لا يحمل في طيات فكره تصوراً واضحاً لما يريد فانكب ينقل تماماً كمشروع القردة الذي ذكرته بالأعلى. انطلق الكثيرون في نظرة حالمة لتاريخ.. التاريخ الذي تعلم منذ صغره أنه كان من أعظم التواريخ، فأخذ يجمع الكتب التي كتبها أجداده في هذه الأزمنة منكباً عليها، يرى فيها النجاة ويريد أن يؤسس بها مشروع حلمه. ولكنه في مأزق فحين أخذ ينقل وجد صفات وأشكالاً لهذا التاريخ مختلفة عن هذه الوجوه التي تعيش حوله!. فأخذ يطالب بأن تتغير الوجوه والملامح إلى الأشكال التي يراها في هذه الكتب، لأنه ببساطة ما يراه في الواقع ليس موجوداً في هذه الكتب، وبالتالي على من حوله أن يصبحوا ملائمين لهذه الكتب إذا أرادوا النهضة والنجاة. ثم أخذ يقرأ ثناءاً على أجداده لأنهم حققوا انجازات صناعية وقانونية وثقافية وفنية أذهلت العالم كله آنذاك، فانكب يحيي ما يراه من أفكارهم، فوجد نفسه يريد تشريعاتهم وقوانينهم وثقافاتهم وفنهم.. وفوجئ مذهولا من رقي أخلاقهم فأراد أن يرى كل ما حوله الآن على أخلاقهم، فوجد نفسه يمشي في الشوارع يأمر الناس ويوجههم لكي يكونوا على أخلاق سلفهم. والأمر ليس كذلك البتة.. فسلفنا أعملوا عقولهم ورتبوا أفكارهم فاجتهدوا وأطاحوا بكل ما هو غير عقلاني حتى وإن كان مقدساً.. فسلفنا كانوا يخرجون عن كل ما هو مألوف، ووقفوا يناطحون أساتذتهم ويكتبون ما هو مخالف لأفكارهم.. سلفنا أحيا العقل وتدبر الأمور فارتقى العقل بكل ما حوله. العقل فقط هو الذي يحيي الأخلاق في الإنسان دون أن يكون عليه رقيب، لأنه ببساطة ما من عاقل مؤذ لغيره، بل أن عقلانيته تجعله ببساطة شديدة سريع القبول للآخرين واحترامه لهم حتى ولو كان على قناعة مختلفة، تراه يتعامل مع الجميع بعقله متدبراً للأمور مستمعاً هادئاً لا يتحدث كثيراً. نجد عقلانيته حين أبدعت فناً، وجدناه فناً أبهر أهل زمانه، واخترع من الفنون ما لم يعرفه أسلافه.. هذا الفن تلاءم مع عقلانيته وفهمه وإدراكه لذاته ومجتمعه لأنه عاقل لم ينفصل عن ذاته أو من حوله. رأيناه يبدع في ملابسه وشكل أزيائه، لأنه بعقلانيته ارتدي ما يشعر بسعادة وهو يرتديه، دون أن يخبره أحد ماذا عليه أن يرتدي؟، لأنه ببساطة يمتلك بعقله وعياً بذاته ومن حوله. ولهذا ألخص ما أردت الوصول إليه: العقل أولاً.. العقل والوعي والتعليم هو الذي يؤسس لمجتمع آدمي، فحين أراد سيد الخلق رسول الله تأسيس مجتمعاً، لم نرى في دولته شرطياً، ولا مأموراً لقسم ولا مباحث تحري للآداب العامة! .. لقد علم رسول الله من حوله كيف يعملون عقولهم وكيف يتدبرون ذواتهم ومن حولهم؟، كيف يتقبلون مجتمعاتهم؟، علمهم أن العقل هو معيار الاختيار فقد اختاروه إماماً لهم بعقولهم لا بكتب سلفهم.. فرأيناه حين قرأ عليهم تحريم الخمر لم يوجد آلية لتنفيذ هذا التحريم ، فلم يعقد اجتماعاً لبحث كيفية التحري عمن سيشرب الخمر، والبحث عنه، بل انه حتى لم يصدر تشريعا لإغلاق محال الخمور، لقد قرأ عليهم تحريماً دينياً.. وهم هؤلاء الذين يعملون عقلهم فراحوا ينهالون بشكل فردي محض على خمورهم يلقونها في الطرقات.. وانتهى الأمر .. كان بعضهم يستطيع أن يشرب خمرا ويبيع خمراً، وبالتأكيد هذا حدث في هذه الدولة ولو بشكل نادر .. لكن لم يكن الحل في منعه هو التحري وتطبيق "النقل" بآلية، بل إن وعي المجتمع بذاته ووعي كل فرد بنفسه ومن حوله صنع منه ببساطة "عقلا يمشي على الأرض" ولأن القرآن هو عين العقل، كان وصفهم دوماً أنهم "قرآناً يمشي على (ألا يعقلون)، فرض عليهم ذلك بقانون بدون شرطة أوهيئات، بل علمهم إمامهم كيف يعقلون؟ .. كيف يتدبرون؟.. كيف يمشون في الأرض فيتعلمون؟. هذا ما نريده من حكامنا، وهذا ما نريده كمجتمع يريد النهضة، أن نعمل عقولنا ونعي ذواتنا ونفهم أنفسنا ونربي أبنائنا على العقل والوعي والعمل.. هذا الرقي العقلاني هو الذي يرتقي بسلوكيات أبنائنا فيجعلهم "عقلا يمشي على الأرض". هناك بلاد حولنا أقامت دولة النقل كما تقول الكتب تماماً، لا تزيد حرفا ولا تنقص، فلم تخرج إلا أجيالاً مشوهة منافقة، أخلاقيتها أسوأ من الأنعام بل هم أضل سبيلاً.. لأنهم قالوا لهم لا تشربوا الخمر ولكن أحدهم لا يعلم ما هو الخمر؟، ومن أين يأتي؟، وما هو واقع بلاده وما هي صفات مجتمعه؟، وما هي متعته؟، وما هو المنطق والعقل؟. وأخيراً: علم ابنك المنطق يعرف الخالق.. وعلم ابنك كيف يعمل عقله ترتقي أخلاقه. علم ابنك كتب السلف فسيعبدها دون أن يعرف من هو الخالق، فهو يعبد ورقا وأحباراً.. وعلم ابنك النقل والحفظ تنحط أخلاقه لأنه ببساطة يحفظ شيئا كتبه غيره. لنبدأ في إعمال عقولنا، ومشروع نهضتنا يبدأ بوضع مشروع تعليمي حقيقي يربي أبنائنا في المدارس تربية عقلانية واعية، تجعلهم أوفر حظاً منا نحن الذين لم نتعلم سوى النقل. العقل أولا ثم النقل.