الشعب: محمد فتحي يونس عن عمر يناهز الثامنة والثمانين عاما ورصيد فكري بلغ 98 كتابا، مات مصطفى محمود.. الطبيب والكاتب والقاص.. وأبرز تلامذة الجيل الثاني من الجيل الذي بدأ حياته شاكًّا ماديًّا صادمًا للثوابت الدينية الغيبية. وانتهى توفيقيا يحاول تزويج الدين بالعلم، يقدم ما يشبه التوبة على ما كتبه في ماضيه القريب. كان الجيل التوافقي الأول هو الجيل الليبرالي الذي تجلت أعماله في فترة ما بين الحربين.. "جيل الشعر الجاهلي" لطه حسين، و"أحوال المرأة في الإسلام" لمنصور فهمي.. جيل إسماعيل مظهر وفرح أنطون وسلامة موسى. هذا الجيل الذي أخفق في النهاية في الوصول إلى نهضةٍ أَسّسَ عقلانيةً فكريةً من أجلها، واضطر بعض رموزه إلى عودة سلفية أنتجوا معها أعمالا دينية، ك"علي وبنوه"، و"الفتنة الكبرى"، و"عبقريات" العقاد. مثل الجيل الأول الذي أخفقت معه العقلانية، بدأ مصطفى محمود ماديّا بحتا.. قضى منذ طفولته ساعات طويلة يراقب ظواهر الكون، ويدخل في قضايا جدلية حول خلق الكون. في مكتبة البلدية بطنطا، كان يقضي محمود يومه يقرأ لرواد العقل السابقين، أمثال ماركس وشبلي شميل وسلامة موسى وفرح أنطون. وفي المنزل يدخل معمله الصغير، بحسب اعترافه في كتابه "رحلتي من الشك إلى الإيمان" (1970) يشرّح الضفادع، ويحضّر ثاني أكسيد الكبريت، ويقتل الحشرات بالكلور. وبعد التحاقه بكلية الطب، ازداد إيمانه بالمادة والعلم.. العلم فقط.. ثم أتيحت له فرصة التعبير عن أفكاره.. فكانت الصحافة التي التحق بها في عام تخرجه 1953، وكتب سلسلة أفكاره الجريئة.. "نريد طائرات ودبابات وليأخذوا منا العبادات". ثم كانت مؤلفاته عن "لغز الحياة" و"لغز الموت" و"الله والإنسان". وهذا الكتاب الأخير كان سببا في اتهامه بالإلحاد، وبدء تحويله الى المحاكمة، لكنه أعلن دائما أنه لم يكن ملحدا، بل فقط شك من أجل الوصول الى الحقيقة. كتب محمود سنة 1970 رحلته التي قال إنها من الشك إلى الإيمان.. ماشيا على الدرب نفسه الذي مشى فيه جيل التمرد الفكري الأول.. لكن محمود في توفيقيته بين العلم والإيمان، جاءت اجتهاداته أقرب الى التلفيق.. معتمدة في أغلبها على ما يشبه الحدس الصوفي الذي مارسه من قبل أبو حامد الغزالي للوصول الى الحقيقة. فلم يؤسس لاتجاه عقلي للتدين، فقط مجموعة همهمات وتسبيحات، وانبهار دون خطوات ملموسة. كما كان في إسلامياته يخون عقله، ويتجه الى تفسير النص مباشرة على طريقة الجماعات الأصولية. فكتب مرة في الأهرام أن الحرب بين اليهود والمسلمين ستكون عام 1998 بناء على تفسيره للنص، وهو ما لم يتحقق بالطبع. تحول محمود تدريجيا إلى مفكر إسلامي، وتماس اتجاهه مع تحول المجتمع إلى الإيمان الطقسي منذ السبعينيات في دولة العلم والإيمان، صادَق السادات رئيس الدولة، وقدّم ما يقرب من 400 حلقة من برنامجه التلفزيوني "العلم والإيمان". مارس بعض مشاكساته العقلية القديمة، فكتب آراء جريئة حول عدم وجود الشفاعة النبوية للمسلمين.. استعاد قابليته للتكفير.. اشتد الهجوم عليه من الأزهريين والعلمانيين على السواء، حتى انزوى في صومعته في مسجده بمنطقة المهندسين، الذي يضم مشروعه الخيري الأثير، ليمارس التأمل والعزلة بين تلسكوبه ومتحفه البحري إلى أن أقعده المرض. محمود كان مشاكسا عقليا.. تمرد على الثوابت، ثم على العقل نفسه. فعاش في شقاء.. واهتز مشروعه الفكري.. فانزوى معه.. وانتهت حلقات العلم والإيمان بانتهاء الموضة.. بينما أسست كتاباته الأخيرة لما كان يحاربه في بداية حياته من مخاصمة العقل. لكن ما بقي من مصطفى محمود، إلى جانب مشاكسته الفكرية وقدرته على التصريح بما يؤمن به.. ثمرة أعماله الاجتماعية.. ووقوفه إلى جانب الفقراء.. متمردا على دوره كمثقف ينظر ويشك.. بل ضرب مثالا لمثقف عضوي يخفف آلام الإنسان. فكانت جمعية مصطفى محمود لمساعدة الفتيات المقبلات على الزواج والأرامل والصرف على اليتامى ورعاية الفقراء.. فإذا كان المثقفون قد خذلوه ولم يهتموا لأمره وأهملوا أعماله في نهاية حياته، فإن الفقراء هم من وقفوا على قبره وشيعوه إلى مثواه الأخير محاطا بدعواتهم ودموعهم.