كانت الثورة العرابية أشد أحداث القرن التاسع عشر استفزازاً لأوروبا الاستعمارية، خاصة لبريطانيا "العظمى"، وبعد انتصار الجيش المصري على جيش الامبراطورية في معركة "كفر الدوار"، بدا وكأن الحظ يتخلى عن مصر، فلم يكد محمود باشا فهمي (أحد زعماء الثورة السبعة، وأعظم مهندسي الاستحكامات العسكرية)، ينتهي من اختيار المواقع والقواعد، ويضع التصميمات ويحدد ساعة المعركة الفاصلة وكانت في "التل الكبير"، حتى وقع ما لم يكن في تصور أحد، فبمحض صدفة سيئة وقع القائد الفذ الذي تعلقت به الآمال في الأسر، حيث كان يقف على تبة عالية يتفقد المواقع مع أحد معاونيه حينما فاجأته دورية بريطانية ضلت طريقها وتجاوزت الخطوط البريطانية، وكان يرتدي ملابس مدنية لا تدل على شخصيته، فأراد أن يقنع الضابط قائد الدورية بأنه مجرد مالك للأرض يتفقد حقوله ولا صله له بالحرب، وكاد يخلى سبيله لولا أنه رأى من الأفضل أن يصحبه إلى مقر القيادة، حيث قضى الأمر واكتشفوا هناك شخصيته. لم يكن ممكناً أن يتوقع البريطانيون ضربة حظ سهلة مثل هذه، وقع في يدهم بمحض الصدفة القائد المصري الذي لا يعوض، لم تكن هناك ضربة أشد من هذه يمكن أن تنزل بالمصريين، وهم يستعدون لمعركة فاصلة في التل الكبير، وأسرع عرابي إلى الجبة الشرقية ووضع خطة المعركة، التي كانت تقضي بأن يبدأ الهجوم من "القصاصين" ويقوم محمود سامي بقواته بالهجوم على الجناح الأيمن من "الصالحية"، ويقوم راشد حسني بالهجوم من الأمام وتلتف قوة أخرى من الصحراء بقيادة علي فهمي وتفاجئهم من الخلف، وتولى القيادة أشهر قادة الميدان في الجيش المصري وهما راشد حسني وعلي باشا فهمي نائباً له. وبدأ الاشتباك، الذي قالت عنه جريدة "التايمز" آنذاك: "صمد المصريون وقاتلوا بعناد شديد واستطاعوا أن يلحقوا خسائر كبيرة بالفرقة الرابعة"، وظلت نتيجة المعركة معلقة لأن الانجليز فوجئوا بالهجوم المركز، وكاد أن يقع في الأسر القائد الثاني للحملة وهو الدوق أوف كنوت ابن عم الملكة فيكتوريا، ليكون ثأراً كافياً لمحمود فهمي، لولا أن أصيب قائد المعركة ونائبه ونقلا من الميدان، ولم تصل القوات الاحتياطية التي كان مفروضاً أن تصل من الصالحية، وبذلك تغلب البريطانيون وإن لم تكن النتيجة فاصلة. منح القائد العام قواته ليلة راحة استعداداً للمعركة الفاصلة في "التل الكبير"، بعد يوم أو يومين على الأكثر، التي سوف يتقرر بها المصير: إما أن يرتد البريطانيون وتتحرر مصر، وإما أن ينتهي كل شئ ويصبح الطريق إلى القاهرة مفتوحاً. كانت القوات تنام في حراسة قوات الخيالة "الساهرة"، وهي صفوة قوات الجيش المصري، ويقودها أحد كبار ضباط الثورة الأمناء أحمد عبد الغفار، وسهر القائد في خيمة القيادة مع بعض ضباطه، وكانت ليلة هادئة صافية من ليالي الخريف في مصر، وفجأة في الساعات الأخيرة من الليل، استيقظ الجميع على دوي الإنفجارات وسيل من قنابل المدافع وطلقات الرصاص، وفوجئت المعسكرات بأن القوات البريطانية وسطهم وفي كل مكان، تمعن فيهم قتلاً وهم نيام، لم تترك لأحد الوقت لأن يصل إلى ملابسه أو سلاحه، وانهارت القوات المصرية وسط الفوضى والفزع، وأبيدت قوات الوسط واليمين، لكن قائد قوات الميسرة استطاع أن يجمع جنوده وأن يستثير وطنيتهم وحماسهم وأن يشن هجوماً مضاداً، وساندته بعض قوات المدفعية، ممن استطاعوا الوصول إلى مواقعهم وسط هذا الجحيم، كان عملاً بطولياً، لكنه يائساً. استشهد الفارس العنيد القائمقام محمد عبيد ومعه زهرة قوات الجيش المصري النظامي، وصفوة من رجال المدفعية الذين صمدوا على مدافعهم حتى انتهوا معها، ودامت المعركة ساعة واحدة، لم يعرف أحد يومها سبب الكارثة، ولم يكن هناك تفسير ولكن القائد العام أدرك على الفور أن الخطوة القادمة والأخيرة هي القاهرة، ولابد من العمل على عرقلة الزحف البريطاني حتى يتم تنظيم الدفاع عن العاصمة، وأسرع إلى هناك لدعوة المجلس العرفي للانعقاد. لم يكن هناك من أسباب يستطيع أن يقدمها عرابي للانهيار في التل الكبير، لم يكن ليصدق لو أخبره أحد أن قائد الخيالة "أحمد عبد الغفار" ونائبه "عبد الرحمن حسن"، وقائد القوات الرئيسية في الوسط "علي خنفس" قد باعوه ثلاثتهم مقابل عشرة آلاف جنيه ذهب، قبض كل منهم ألف جنيه على أن يقبض الباقي في القاهرة. كان "أحمد عبد الغفار" من الرواد المقربين إلى عرابي، حتى أن الخديوي أراد يوم مظاهرة سبتمبر أن يثنيه عن الانضمام إليها، لكنه تحداه وأهانه، ولاشك أن عرابي لم يكن ليصدق لو أخبره أحد أن المعلومات التي أمده بها "سعود الطحاوي" بأن البريطانيين يعيدون ترتيب قواتهم بعد "القصاصين"، ولهذا لن يهجموا قبل بضعة أيام، مضللة، لأن الشيخ "سعود الطحاوي" بلديات عرابي، من مديرية الشرقية، ومن الذين لا ينقطعون عن التردد على خيمته وإثبات الولاء له، ووضع قبيلته وثروته في خدمة الثورة!. لم تكن معركة بأي حال، وراح ضحيتها آلاف، لم يجدوا حتى الفرصة لأن يقاتلوا أو يسلموا أنفسهم، وحينما وصل عرابي إلى القاهرة، كانت الأخبار قد سبقته ودعت لجنة الدفاع الوطني المجلس العرفي إلى اجتماع دام ليلة كاملة، انتهى بأنه لم تعد هناك أي قوات أو إمكانيات لاستمرار المقاومة، وأنه لا سبيل لإنقاذ العاصمة إلا بالتسليم، وأن الدفاع عنها قد يؤدي بها إلى مصير أسوأ من الإسكندرية. وحينما سلم عرابي سيفه للقائد البريطاني، انتهت أطول سنة في تاريخ مصر، والتي بدأت بالثورة العرابية في 9 سبتمبر 1881، وانتهت بالقضاء عليها في معركة "التل الكبير" في 13 سبتمبر 1882، واحتلال الانجليز لمصر. Comment *