فى مثل هذا اليوم من شهر رمضان المبارك، وتحديداً 27 رمضان عام 1329 ه، الموافق 21 سبتمبر 1911، توفى أحمد عرابي زعيم الثورة العرابية. وبمناسبة ذكراه نتذكر أكبر رشوة في تاريخ الامبراطورية البريطانية لاحتلال بلد، هو مصر. فقد قامت الامبراطورية البريطانية واستمرت بفضل مدافع أسطولها، ولكنه لم يكن السلاح الوحيد، بل كان هناك ما لا يقل فتكاً، وهو سلاح برعت فيه بريطانيا وتقدمت في استخدامه، واشتهرت به، ومارسته في كل أنحاء الشرق، اسمه في القاموس السياسي البريطاني سلاح "الخائن المحلي". أعدت بريطانيا خطة كبرى للرشوة وشراء النفوس في مصر، أشرف عليها وزير البحرية اللورد نورثبروك، الذي تفاخر بأنها سوف تكون من المآثر التاريخية في تاريخ الامبراطورية. توجه ضابط مخابرات بريطاني يدعى "الكابتن جيل" إلى جامعة كامبردج، ودعى المستشرق البريطاني "جون بالمر" أستاذ اللغة العربية لمقابلة وزير الحربية البريطاني في لندن، وعلى مائدة الإفطار شرح له الوزير الهدف وأنه اختاره لمهمة وطنية دقيقة هي اقناع بدو الصحراء الشرقية وسيناء وغزة بمساندة بريطانيا خلال عملية غزو قريبة لمصر، ووعده بمبلغ كبير ومرتب شهري ووضع تحت تصرفه كل الأموال اللازمة، وسيكون مرافقه الكابتن جيل. وسافر بالمر إلى الجهة الشرقية، ولحق به بعد أيام الكابتن جيل يحمل مبلغاً طائلاً من المال، ويحمل أيضاً قائمة سلمها إليه الخديوي توفيق بأسماء مشايخ البدو الذين يمكن أن يستميلهم ويقنعهم باسم الخديوي، وطلب إليه أن يتوجه إلى اثنين منهم خاصة هما "سعود الطحاوي" و"محمد التبلي"، وكان أشد المشايخ استجابة وتلبية للرسالة "سعود الطحاوي" وهو بلديات "عرابي" ومن أقوى أنصاره وأشد المقربين إليه، وكان محل ثقته التامة، كما كان من أعيان مديرية الشرقية وأوسعهم نفوذاً. ولم يكن ممكناً أن يعثر البريطانيون على صيد أثمن من الرجل الذي وضع الخاتمة وهو رئيس مجلس النواب المصري "محمد سلطان باشا"، واستطاع اللورد دوفرين السفير البريطاني في أسطنبول أن يقنع السلطان العثماني بان يصدر منشوراً بإعلان عصيان عرابي وخروجه على الشرع وعلى الأمة. وكانت الوفود من مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي قد سبق أن بايعت عرابي في موسم الحج زعيماً للإسلام والمسلمين، وتؤكد له ولاءها وتعلق آمال المسلمين به، وأثار هذا قلق السلطان بقدر ما أثار قلق بريطانيا، وتسلح "سلطان باشا" بسلاح خروج عرابي على الإسلام، وبدأت حملته المنظمة للغزو من الداخل، وكان له نفوذا واسعاً داخل المجلس والجيش، مكنه من استقطاب وشراء عدد من ضعاف النفوس، من السياسيين والعسكريين، كان أهمهم عبد السلام المويلحي زعيم المعارضة في عصر الخديوي إسماعيل وأحد أقطاب مجلس النواب خلال الثورة، ومن العسكريين أحمد عبد الغفار قائد سلاح الفرسان ونائبه القائمقام عبد الرحمن حسن، ثم القائمقام علي يوسف خنفس قائد المشاة، واستطاع كل منهم أن يشتري بعضاً من ضباطهم المرؤسين، وسرى السم في قلب القوات المصرية. وقبل أن تبدأ معركة "القصاصين" كانت خطة الجيش المصري بخط وخريطة عرابي مع القائد البريطاني، سلمها له القائمقام علي يوسف خنفس، وتولى سعود الطحاوي تضليل جيش محمود سامي البارودي حتى لا يصل إلى مواقعه وتهاوت الخطة. وتحقق الحلم البريطاني ووقعت مصر في أسر الامبراطورية، وأصبحت قناة السويس في قبضة بريطانيا، وأصبحت أفريقيا القارة المجهولة والتي اشتد الصراع عليها مفتوحة الأبواب أمام بريطانيا. ولم يقدر للأسطورة أن تعيش طويلاً.. وكشف زيفها. عثر على جثث المستشرق البريطاني بالمر وضابط المخابرات البريطاني الكابتن جيل مقتولين في الصحراء، فقامت أسرتاهما بتسليم مذكراتهما التي يرويان فيها تفاصيل مهمتهما وكل ما قاما به إلى "بلنت" الذي قام بفضح عملية الرشوة الكبرى التي راح ضحيتها شعب بأكمله في مصر، والتي انحطت بالشرف البريطاني إلى أدني مستوى. وكان ثمن الخيانة فادحاً بالنسبة لمرتكبيها، لم يف البريطانيون بوعدهم إلى خنفس ولم يدفعوا له شيئاً مما اتفق عليه، وظل يطالب به حتى مات، بل وأحيل إلى الاستيداع وعاش منبوذا لا يستطيع أن يكلم أحداً، واختفى عبد الرحمن حسن ولم يعرف عنه شيئاً، وأودع عبد الغفار السجن مع الضباط الوطنيين وكان عذاباً أشد إيلاماً، وحينما ذهبت زوجته لتنفق من الجنيهات البريطانية اكتشفت أنها مزيفة وانها من الرصاص المطلي بالذهب، واكتشف كل الذين قبضوا من البريطانيين هذه الحقيقة أيضاً، وكانت صدمة شفت غليل المصريين فيهم، وحصل سعود الطحاوي على نصيبه ذهباً خالصاً وعلى الف فدان من الأرض، ولكنه أصبح رمزاً للخيانة تجنبه الناس جميعاً هو وكل قبيلته، وأنعم على سلطان باشا بأرفع وسام بريطاني واصبح "السير محمد سلطان باشا"، ولكن لم يثق الخديوي أو البريطانيين في اهليته لتولي أي منصب، وظل معتكفاً في منزله حتى مات. أفاقت مصر من الصدمة.. واستانفت المقاومة.. ولم تتوقف حتى انتهت الامبراطورية كلها، وغرقت بعد أربعة وسبعين عاماً في مياه السويس (1956) في ذات المكان الذي نزلت فيه قوات ولسلي. Comment *