في خضم الصراع المشتعل بين من يمثلون الدولة المدنية ومن يريدونها دينية داخل الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور يخرج علينا دعاة الدولة المدنية فرحين بما قاموا به ويخرجوا إلينا المادة الثانية التي يدور حولها الخلاف والاختلاف بهذا النص : " الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع والأزهر الشريف هو المرجعية النهائية في تفسيرها ولأتباع المسيحية واليهودية الحق في الاحتكام لشرائعهم الخاصة في أحوالهم الشخصية وممارسة شئونهم الدينية واختيار قياداتهم الروحية " وتراهم في فرحهم كأنهم حققوا النصر المبين والفتح العظيم وانتصروا على من يريدون الحكم باسم الدين ولكنهم في ضلال عظيم حيث أنه شتان بين مدنية الدولة في الإسلام وبين الصياغة التي صاغوها فالإسلام يرفض الكهنوت بل إن الكهنوت يتنافى مع مبادئ هذا الدين وأصوله الراسخة منذ قدم التاريخ ، وقد تسأل أيها القارئ النجيب عن موضع الاعتراض فتدبر معي هذه الكلمات : " ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع والأزهر الشريف هو المرجعية النهائية في تفسيرها .. " نتفق جميعاً في أن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع ولكن انظر للطامة الكبرى التي تبدأ بأن الأزهر الشريف هو المرجعية النهائية في تفسيرها !! وهنا يكمن لغم شديد الانفجار ينسف المراد الظاهر من المادة ، بل انه يكرس و يأسس لدولة دينية كهنوتية لا يعترف بها الإسلام وليست من الإسلام في شيء وهذا من عدة جوانب : - اختلف الإسلام عن الأديان الأخرى فترك باب الاجتهاد في فهم النصوص مفتوح فاختلفت التفسيرات وتعددت الآراء والمذاهب وأمرنا الإسلام بالتدبر في العديد من المواضع واليك منها الحديث النبوي الصحيح " استفت قلبك ولو أفتاك الناس " بل أن أئمة المذاهب المعتبرة كان دائما قولهم المشهور "إن صح الحديث فهو مذهبي " مانع لكل محاولات من يريدون التفرقة المذهبية وهنا تكمن عظمة هذا الدين . - لا يخفى عليك مدى خطورة تحول مؤسسة الأزهر الشريف من كونها مؤسسة تربوية تعليمية يحترمها الجميع من مشارق الأرض إلى مغاربها إلى مؤسسة تضطلع بشئون الحكم و تغرق في أوحال الخلافات السياسية مما قد يؤدي إلى إسقاط هذه المؤسسة صاحبة التاريخ العظيم . ولتتضح إليك الأمور فإليك هذا التأصيل البسيط عن الفرق بين التشريع الإسلامي والكهنوتي : - الفرق الأول: السلطة الكهنوتية، في زعم القائلين بها، سلطة موهوبة من الله مباشرة عن طريق من خوّله اللهُ هذا القرار، بينما السلطة الاجتهادية الإسلاميّة هي سلطة مكتسبةٌ بناء على معايير علمية واضحة قابلة للقياس لا يُمنع منها أحد والحالة التي عليها المادة الآن تجعل من الأزهر سلطة كهنوتية موهوبة بنص دستوري . - الفرق الثاني: السلطة الكهنوتية نافذة دائما وغير قابلة للمراجعة، بينما السلطة التشريعية الاجتهادية في الإسلام هي سلطة تقديريّةٌ قابلة للردّ والنقض والمراجعة وبحكم النص الدستوري الأزهر الشريف هو المرجعية النهائية في تفسير مبادئ الشريعة الإسلامية ! ، رحم الله القائل "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"... فهل تشمّون شيئا من رائحة الكهنوت واحتكار الحقيقة في مثل هذا الخطاب الذي تنبئ عنه هذه المقولة وغيرها من النصوص مثل: - "قل هاتوا برهانكم". - "فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله". - "الحكمة ضالة المؤمن". - "أنتم أعلم بشؤون دنياكم". - "كلكم راد ومردود عليه". - "فإذا بلغ الأمر فلانا وفلانا، فهم رجال ونحن رجال". - "كلّ مجتهد مصيب". - "من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد ولم يصب فله أجر واحد"... فكلّ هذه النصوص وغيرها يمكن أن تكون أُسسًا نوعيّة مميِّزة للسلطة التشريعية الإسلامية التي تنطلق من المرجعية الإسلامية ممثّلة في "النصوص" (الوحي) وليس في "الأشخاص"، ولكنّها تعتمد أدواتٍ ووسائلَ بشريةً في تقدير الحقّ من تلك نصوص وتنزيلها في الواقع. - الفرق الثالث: السلطة الكهنوتية هي تعبير عن الحقّ في صورته النهائية والملزمة ، بينما السلطة التشريعية المخوّلة للفقهاء والمفتين هي سلطة "اقتراح"، ولا تبلغ الإلزامَ إلا بقرار القانون والقضاء، أمّا قبل ذلك، فهي مجرّد إمكانيات يتبنّى منها "المسلم" ما يُقدّره حقًّا في إطار ممارسته لحريّته الشخصية، وفي إطار تفريق "دقيق" ولطيف تجده عند فقهائنا بين ما هو صحيح "ديانةً"، وما هو صحيح "قضاءً"، فقد يكون الحكم صحيحا قضاءً وغير صحيح ديانة، ويُتصوّر العكس. وتفسير ذلك أنّ يحكم القاضي حُكمًا يكون غير مطابق للواقع بسبب شهادة زور أو عدم كفاية الأدلة، ولكنه –في التصوّر الإسلامي- يكون نافذا قضاءً في حكم البشر وتقديراتهم، غير أنّ هذا الحكم الخاطئ، وإن كان نافذا، فإنّه لا يُسقط الحسابَ الأخرويّ في منطق الدّين، ولا يُعفي مَنْ تعمّدَ الخطأَ من المحاسبة، إلا إذا اعترف بذنبه وأرجع الحقّ إلى أصحابه... الخلاصة : مما سبق يتبين لك قارئي العزيز مدى الخطر من تحول الأزهر الشريف الى سلطة كهنوتية دينية وقد تتصور من المقال أنني ارفض أي دور تنويري للأزهر الشريف ولكن حقيقة الأمر أني أرى أن الأزهر الشريف لن يعود إلى دوره إلا بابتعاده عن كنف الدولة ليخرج لنا علماء دين لا يهابون السلطة ولا يخشون في الله لومت لائم ولا يخافون بطش حاكم جائر يفتون الناس بما بلغهم من العلم و يقولون الله أعلم عندما لا يعلمون . [email protected] Comment *