القيمة لا ترحل ، إنما يرحل فقط بين الحين والحين نموذج إنسانى رائع تجسدت فيه ، وتبقى دائما نماذج إنسانية أخرى تتجسد فيها القيمة بالفعل فتعوضنا عمن رحل عنا ...هذا ما تأكنا منه عندما رحل أحمد بهاء الدين وبقى لنا سلامة أحمد سلامة مجسدا بشكل رائع لنفس القيمة النبيلة: قيمة احترام الكاتب لعقله وضميره ،وشعوره الدائم بمسئوليته الأخلاقية نحو قارئة التى تفرض عليه ألا يقدم له إلا الحقيقة الموضوعية الأمينة والرأى المتعمق الذى يرتقى بوعيه بمشكلات وطنه وأمته دون دغدغة لمشاعره أو متاجرة بها . ودون نظر إلى ما يتطلبه أصحاب السلطة. ونحن لا نقصد بالسلطة هنا السلطة السياسية وحدها ، وإن كانت قى مجتمعاتنا واحدة من أهم اشكال الهيمنة التى تحاول أن تفرض نفسها ومتطلباتها على الكتاب والمبدعين والمفكرين والمشتغلين بالإعلام والتى يذعن لها للأسف الشديد ويتوجه إليها بالتملق ومحاولات الإسترضاء جانب غير قليل منهم ، ولكننا نقصد بها أيضا كل أشكال القوة المهيمنة اقتصادية كانت أو اجتماعية . وهذه قد تكون فى كثير من الحالات أشد خطرا من السلطة السياسية ذاتها . ..كان سلامة أحمد سلامة لا يلقى بالا على الإطلاق إلى ما ترضى عنه السلطة فى كل صورها وأشكالها، ولم يكن يذعن فيما يكتبه إلا لسلطة واحدة فقط هى سلطة غقله وضميره الذى يفرض عليه أن يحترم نفسه ويحترم قارئه فى آن واحد ، غير أن هذه لم تكن هى ميزته الوحيدة فهو على المستوى المهنى الخالص كان بالنسبة للعمود اليومى ( شأنه فى هذا شأن أحمد بهاء الدين ) كان يمثل ما يمكن أن نطلق عليه "الكاتب الأنموذج"، أعنى أنه من خلال حيز محدود من الكلمات التى تمثل مساحة العمود ( ما بين 300إلى 500كلمة) كان يقدم يوميا وبشكل منتظم بناء متكاملا ومترابطا تمتزج فيه المعلومة الدقيقة بالرأى المضىء وتتضافر كل مكوناته لكى تخدم الفكرة أو الرسالة التى يستهدف توصيلها .فى إطار من الجاذبية والإمتاع الراقي الذى ينبع أساسا من بساطة الأسلوب وإحكام تسلسل الأفكار والذى يشبه فى بعض جوانبه تلك المتعة التى نشعر بها عندما نتلقى عملا فنيا رفيع المستوى ( من أقرب كتاب العمود اليومى إن لم يكن أقربهم إلى تحقيق هذا الأنموذج حاليا هو الأستاذ عمادالدين حسين فيما أتصور ) ... وفى المرة الوحيدة التى قدر لى فيها أن ألتقى بالأستاذ سلامة منذ ما يقرب من عشرين عاما عندما جاء إلى جامعة سوهاج لكى يشارك فى مناقشة إحدى الرسائل الجامعية بقسم الصحافة ، وفى لقاء خاص بنادى الجامعة ضمنى وإياه ولجنة المناقشة مع الزميلة العزيزة الدكتورة عواطف عبدالرحمن، وجدت نفسى مدفوعا لأن أسأله من أين يستمد المادة المعلوماتية الدقيقة التى لايخلو منها عمود من أعمدته رغم تنوع موضوعاتها ، وقد أجابنى يومها بأنه يستخدم أرشيف الأهرام ومكتبته بالإضافة إلى مكتبته الخاصة لتدقيق أية معلومة ترد فى مقاله ، فإذا علمنا أن الإنترنت فى مصر فى ذلك الوقت لم يكن من بين وسائل الحصول على المعلومة ، فإن معنى هذا أن المقال الذى قد تستغرق كتابته ساعة واحدة ربما احتاج إلى عدة ساعات من البحث والتدقيق لكى يستوفى مادته المعلوماتية، وهو ما يكشف لنا عن مدى أمانة وإخلاص سلامة أحمد سلامة مع نفسه وقارئه، ويتضح لنا مدى هذا الإخلاص وتلك الأمانة إذا ما حاولنا أن نقارن من هذا المنظور ما كان يكتبه سلامة بما كان ومازال يكتبه كتاب آخرون بعضهم يحمل لقب رئيس تحرير صحيفة كبرى بينما تحفل كتاباتهم بالمعلومات الخاطئة إما عن جهل ( وما أكثر الجهل بين عدد لا يستهان به ممن حملوا ذلك اللقب ) وإما عن عمد وإصرار مبيت على تقديم المعلومة غير الصحيحة دعما لرأى غير نزيه يستهدف تحقيق مأرب معين ...وإذا كانت صحافتنا الراهنة لاتزال حافلة بأمثال هؤلاء ، فإنها رغم ذلك لا تخلو من الكتاب الذين ينطبق عليهم وصف كتاب حقيقيون ومحترمون ، وهو ما يجعلنا نستعيد مرة أخرى ما ذكرناه فى بداية المقال من أن القيمة لا ترحل، إنما يرحل فقط بين الحين والحين نموذج تجسدت فيه ، وتبقى دائما نماذج أخرى تتجسد فيها القيمة بالفعل فتعوضنا عمن رحل. ولا تزال مصر الولادة وأظنها سوف تظل دائما تلد من بين ما تلد: المحترمين والنبلاء والفرسان. [email protected] Comment *