هل يكفي للتعريف بذلك اسمي ؟! اسمي الحقيقي هو " أسماء " .. لكني تخليت عنه منذ زمن .. هل يجوز ذلك ؟! .. لا أدري و لا يهمني هذا كثيرا .. إلا أن البعض يخبرونني أن هذا دليل على شعوري الدائم بالنقص.. و آخرون يخبرونني أنه عدم تقبل للذات.. أما الأصدق منهم فيقولون أنه دليل على رغبتي في الانفصال "عني .." أما سبب ذلك.. هو غامض نوعا وباهت في ذاكرتي، لأنه حدث منذ زمن بعيد .. لكن حسبما أذكر، كان لي صديق في بدايات طفولتي، كنت أحبه كثيرا لكن لم أشعر أنه يبادلني ذلك.. أخبرني يوما بعد عراك صغير بيننا أنه يمقت اسمي .. ولما سألته عن السبب قال أنه اسم غير محدد، فاقد للمعنى، يذكره بالهلام الأخضر الذي ينبعث من الكائنات الفضائية في الأفلام إذ تغضب، لا شكل له ومقزز.. و ربما لا يدل على شيء سوى الأنانية، فكيف أقبل باحتكار كل تلك الأسماء لنفسي؟! .. كما يدل على العجز الذي يراه في دوما.. عجزي عن الاختيار ! هل قال كل ذلك ؟! .. لا أعرف صدقا، ربما فعل، و ربما زاد عقلي من عنده ما شاء، و أميل لهذا إذ كيف يتمكن طفل من إدراك كل هذه المعاني أو حتى التعبير عنها بشكل سليم لو فعل ؟! اليوم .. لا أستطيع استعادة ملامح ذاك الصديق.. و لا ملامح اليوم أو ما كان سبب الشجار أصلا.. ينتابني أحيانا شعور بأن ذلك اليوم لم يكن، و أني اختلقته تماما ..يومها عدت للمنزل و قد قررت أن يكون اسمي "طيف" .. لم هذا الاسم بالذات ؟! أظنها كانت تشغلني الأطياف ذاك الحين، كنت أقرأ في مجلات الأطفال و بعضها يدرج أحاديث علمية و كانوا يتحدثون عن الأطياف .. لم أدرك معناها حينئذ، لكنني قررت أن يكون اسمي طيف و لم أملك لاختياري هذا تفسيرا أبدا .. أحبت أسماء لعبة " العريس و العروسة " و لأنها كانت أصغر من كل رفاق اللعب، فلم يتم اختيارها أبدا للعب دور العروسة .. ولما كسرت القاعدة يوما وحدث ذلك ورأتها أمها جالسة إلى جوار عريسها رفيقها في اللعب، ذعرت واتجهت نحوها وعلى وجهها تلك النظرة اللي ستصبح كابوس أسماء وارتجافة تسري ببطء عبر جسد طيف.. جذبتها إليها وأخبرتها ألا تشارك في تلك اللعبة أبدا.. قالت أسماء أنها مجرد لعبة أطفال.. زجرتها أمها بالأمر القاطع: لا تشاركي فيها أبدا ! هل كانت تلك بداية الانكماش ؟! ربما ! ماذا عن بداية فقدان كلمات تكوينها الخاص و تحولها لهلام أخضر قبيح مقزز حقا ؟! كان يزور بلدتها من حين لآخر أصحاب المراجيح في تلك الفترات التي تخلوا من الموالد فيتجهون للقرى ولكفور القريبة من المدن يلتمسون الرزق .. صاحب المراجيح كان رجلا أسمر، دبغته الشمس لكنها لم تستطع إزالة نظرة الاطمئنان الغريبة تلك عنه.. وكأنه ملك الدنيا ولا أحد يقدر عليه .. هل ظنت ذلك لأنه كان طويلا جدا وهي صغيرة جدا ؟! .. من المحتمل، لكنها شعرت بسطوة غريبة له ونظرة نافذة تقتحمها لترى فيها ما لم تستطع تحديده .. زارته ومراجيحه كثيرا .. تلعب حتى ينفد مالها ثم يتملكها اليأس والحزن الشديد .. كان ينظر إليها باهتمام خاص، أسعدها ذلك .. تسعدها بوادر الاهتمام دوما .. وأحيانا كان يطيل مدة لعبها أكثر من غيرها .. في يوم فعل العكس، أنهى لعبها سريعا وأخبرها أن وقتها قد انتهى، أصابها غم شديد .. ثم عرض عليها أن تجلس معه حتى ينتهي الأطفال من اللعب ثم تلعب هي مجانا حين يمضون .. لم تصدق ذلك، لكن نبرته الواثقة ونظرته المقتحمة أرغماها على التصديق .. هل يعقل أنه تملكها رعب من ألا تصدقه ؟! انتظرت .. صاحبها صمته .. " اجلسي إلى جواري .. " فعلت .. صمت .. يعد الشاي .. لم يعرض عليها .. " متى سألعب ؟! " " لا تستعجلي .. أم تريدين أن أسحب العرض وأعطيه لطفل آخر ؟! .. أنا أحب الأطفال و أحب أن أسعدهم كما تعلمين " لم تكن تعلم .. لكنها قالت " لا .. سأنتظر " اعتدل في جلسته .. تقرب منها أكثر .. الأطفال مندمجون تماما في اللعب .. أحدهم يضحك بشكل هستيري .. ترغب كثيرا لو تكون مكانه .. أمسك كوب الشاي بيد و يده الأخرى أنزلها إلى جواره .. إلى جوارها .. صمت .. ضحك هستيري .. حرك يده .. قربها منها .. لماذا طال الوقت ؟! .. صارت تمقت هؤلاء الأطفال ! أغمض عينيه وأسند رأسه إلى الحائط وجعل يدندن بلحن لم تتبينه .. اندمجت مع لحنه و لم تنتبه ليده التي جعلت تقترب أكثر .. ثم أحست بشيء يتحرك تحتها، لم تنظر تحتها .. شيء جعلها تنظر إلى جوارها .. شاهدت ذراعه، لكن يده لم تعد ظاهرة، صارت أسفلها .. لم تدر ماذا كان يفعل ولم تدرك أتسأل أم أن السؤال سيقلل من قدرها عنده و تجعله يحول المنحة لطفل آخر ؟! شعرت بارتجافة تمتلك جسدها وانقباضة تغمر أسفل معدتها .. وحرارة تحتويها، تخنقها .. وشل منها لسانها .. كأن كلمات وجودها الغض بدأت في التآكل و الاهتراء فلا تملك القوة لتحريك لسانها .. " اجلسي ساكنة تماما.. لا أحب الضوضاء والحركة.. ستلعبين بعد قليل .. قارب وقت هؤلاء الأطفال على الانتهاء ..لا تقلقي .. أحب الأطفال الهادئين جدا" غمرها العرق و الرعب .. ثم .. توقف كل شيء ! .. ليس الحدث، وإنما الذكرى .. لا تذكر شيئا حدث بعد ذلك أبدا .. لم تفهم أسماء أبدا ما كان يفعل لكن تملكها إحساس باللزوجة و العفونة كلما تذكرت الأمر و تلك الانقباضة التي تنتابها أسفل معدتها تجعلها تهرب من تلك الذكرى غير المكتملة و تتفاداها .. لا تذكر ما فعل بعد ذلك، ما فعلت هي .. هل لعبت أم لا .. لا شيء أبدا سوى سمرة بشرته، نحوله، و طوله الفارع .. هذا بالنسبة لأسماء، أما طيف فلا تذكر الأمر إطلاقا .. لا يصاحبها منه سوى انقباضة تنتابها أحيانا بلا سبب تدريه، و حلم يتكرر عن بئر مظلمة تسقط فيها و تنهض و الفزع يملؤها و ذكرى غامضة تخنقها .. ...... أود لو أخبره .. هل سأستطيع ؟! ليس بالأمر اليسير، وليس بالصعب كذلك .. هل سيضن به عليّ ؟! لا لن يفعل.. أعرفه.. لن يفعل.. لن يبخل عليّ.. فلا أطلب الكثير.. لا أريد سوى طفل منه.. فقط طفل .. ...... ترقص و ترقص و ترقص .. فيض من طاقة هائلة تجتاحها .. تبغي التخلص منها كي لا تؤذي طفلتها مجددا .. يجب ألا تؤذيها، فهي تعشق تلك العينين البريئتين.. لا تحب أن ترى بهما أي حزن.. فترقص.. ترقص و ترجو عدم مجيئها الآن حتى تتخلص من كل تلك الشرارات التي تملأ جسدها و تجلعها لا تملك التحكم فيما تفعل .. كأنها دفقات كهربية، موجات غضب، مزيج من انفعالات لا تميزها تجتاحها بعنف موجه نحو التدمير .. بالتأكيد تحب طفلتها، فقلبها يتمزق بعد كل مرة .. كل نوبة تتركها معلقة بين السماء و الأرض و سياط الشعور بالذنب تهوي بها نحو الجحيم .. ترقص .. ترجو .. تبكي .. تفقد موسيقاها .. صمت خانق .. يعلو صوت دقات رتيب .. قلبها يكاد ينفجر .. دقات .. وقع أقدام صغيرة .. لماذا الآن ؟! . . . . أسماء .. مسجاة على الأرض .. كتلة دم تملأ فمها .. امرأة تروح و تجيء .. لا تستطيع التوقف .. ..... عندما يغمض عينيه تبدوان كأن لا وجود لهما .. لا يدل عليهما سوى رموش جفنيهما .. لا جحوظ لعينيه للخارج و لو بشكل طفيف .. ليستا غائرتين كذلك .. لا تعرجات تفصلهما عن الوجنتين .. يغمرني شعور بأنهما ليستا عينين عاديتين، بل نافذتين للقلب نحو الخارج .. لهذا، تتمكنان من الاحتواء .. كأنه يقف بين عالمين ينظر نحوهما بشكل متساو .. كأنه خارج للتو من صلاة .. لمسته تملؤني بالرعشة اللذيذة .. تمنحني حياة جديدة .. همساته تعطيني الثقة لأصرخ في وجه عالمي القاسي، لأحطمه .. ماذا لو أجابني لما سأطلب ؟! لو أعطاني طفلا .. طفلا أحتفظ به داخلي .. لأصبح ذاك الأمان ينبع من داخلي .. الثقة داخلي .. الحياة المتجددة تأتيني مني ، كلما ضاعت حياة وجدت أخرى .. هل سيفعل ؟! ...... يملؤها الهمس .. " أمها كانت مجنونة " " كيف انتحرت؟! " " كنا نسمع الصرخات ... " " ما مصير الطفلة ؟! " " مات أبوها في عامها الأول .. لهما عمة .. " تمنحها النظرات الثلجية شعورا بالتيه .. و جثة جاحظة العينين نحو الأعلى .. لها شعر كستنائي مشعث .. و جلد باهت كردائها المبتل .. غابت دفقات الحياة، و كذلك الجنون .. ..... " تنظرين للعالم بشكل مختلف .. أحيانا أشك في سلامة عقلك .. و كثيرا ما أدعو ألا تكون بعض دماء أمك قد انتقلت إليك " كانت تلك عمتي بعد أن أخبرتها أني لا أرغب في الزواج، بعد أن أخبرتني عن شاب تقدم لخطبتي .. " لا يمكنك البقاء بلا زوج .. كيف ستواجهين العالم ؟! .. و أنا لن أبقى إلى الأبد " و كان دفاعي الوحيد المعلن : " حسنا .. كيف أتزوج من شاب رآني في الحافلة و ظل يحدق فيّ حتى تصلبت مفاصلي فزعا .. ثم يأتي لخطبتي في اليوم التالي ؟! .. لا يربطني به شيء سوى شعور بالانزعاج و النفور .. " و كانت أسبابها المنطقية : " أولا هو طبيب .. يعني تعليم عال و رتبة اجتماعية، أما أنت فتعليمك متوسط ..ثانيا أحواله المادية جيدة .. ثالثا سمعته و عائلته لا غبار عليها .. كيف لا تقبل فتاة في مثل ظروفك المتدنية بشاب ممتاز كهذا ؟! " أصابتني تلك الانقباضة مجددا، فلم أعد أتمكن من الكلمات .. لكن عينيها المحدقتين بلا استسلام و نظرتها المليئة بالتساؤل الذي يخترقني أجبروني على مغالبة ثقل لساني و احتمال وجعه في المقابل .. و كان ذلك كل ما تمكنت منه : " لا أريده .. " و كان ذلك بعض ما تستطيعه لكنها كانت تعلم أنه يكفي تماما : " و أنا لا أريدك هنا إذا لم توافقي عليه .. لن يأوي بيتي عانسا مجنونة تحيا لذكرى شبح " ..... لونها الأحمر يخترق ذرات الهواء، تنشر الشمس أشعتها خلالها فكأنها تخلق شمسا أخرى من جديد .. تحركها الرياح الخفيفة و تحرك شعري و ردائي معها، أشعر أني أحلق عاليا .. يربطنا خيط مادي رفيع و تراكمات من رغبات نحققها سويا .. رغبة الوجود .. التحرر .. الطيران .. هل يؤذيها خيطي و يحد من حريتها ؟! .. لا أظن .. تبدو سعيدة جدا .. كذلك أنا .. في تلك اللحظات صدقا لا أدرك من أنا .. لا أعرف اسمي و لا أي شيء عن حياتي .. انفصلت عني و عن العالم .. و لا أرغب في العودة .. ..... تدغدغها ذقنه النابتة، فلا تثير فيها حنقا، بل ابتسامة تتسع إلى قهقهات عالية إذ يقبلها .. تداعبه في المقابل مطلقة أصوات غير مفهومة لكنها مليئة بالسعادة .. يبتسم فيضمها إليه أكثر .. تلمس أزرار بذلته اللامعة، تحاول انتزاعها .. يخبرها أنها جميعا لها، لكن لا ينبغي أن تفسد ملابس أبيها .. لا تفهم ما يقوله لكن محاولته منع يديها من اللعب تزعجها .. تفقد حماستها .. ثم تراها، تخطف حمرتها بصرها .. جلبتها نفحة هواء .. خفتها تدهشها .. تتملكها الرغبة في الوصول إليها .. تتململ في جلستها، تحاول انتزاع نفسها منه فيأبى .. لم تصل بعد للمخرج النهائي المتمثل في البكاء، لازال هناك سبيل آخر .. تحول إليه وجهها، تبتسم حتى تبين غمازتاها و سنها العلوية الوحيدة النابتة .. يبتسم في المقابل و قد غمرته إطلالة حسنها .. تجذبه بلطف من ياقته، يدرك أن لها رغبة ما، فينتبه تماما .. تشير إلى الأرض و تحاول انتزاع نفسها بلطف و هي تنظر إليه برجاء .. يأسره ذكاؤها فيستسلم لرغبتها و ينزلها بلطف إلى البساط، فتزحف سريعا نحوها و هي تغمغم بأصوات تشبه ضحكات غير مكتملة .. تصلها أخيرا، تمسك بها بين يديها، يشهق قلبها سعادة، تحرص ألا تتركها فتشدد قبضتها عليها .. أبوها يراقبها .. تحاول الوقوف و هي ممسكة بها، يدرك استحالة الأمر عليها، لكن ينتظر ليعطيها المجال .. كانت تستطيع الوقوف فقط دون أن تتمكن من الخطو من غير استناد إلى شيء أو شخص .. لدهشته، نجحت أخيرا .. و ليس هذا فقط، بل تمكنت من الاستدارة لتواجهه، لم يصدق نفسه فقفز من مكانه فرحا .. اتسعت ابتسامتها أكثر و زادت حماستها إذ رأته سعيدا هكذا، قهقهت و شددت قبضتها أكثر على بالونها و أخذت تحرك يديها بها، و هو يشجعها لتأتي إليه .. ثم .. علا صوت انفجار .. ملأ يديها الفراغ، و قلبها الذعر الشديد .. و قبل أن تتمكن من محاولة الإدراك، سقطت للوراء .. كان أول ما لمس الأرض منها رأسها .. و قبل صوت الاصطدام وصلها صوت أبيها : " أسماااااااااء " كان آخر ما شعرت به هو الألم الجسدي .. ..... سمعت صوت ناي يعزف، تتبعته فانتهى بي في الفضاء، اتحدت مع الغبار الكوني، ارتسمت على ذراتي تواريخ المجرة، قتلتني انفجارات النجوم و ابتعلتني الثقوب السوداء ثم ولدت مجددا مع إشراقة شمس على كوكب بعيد حيث كنت وحدي .. وحدي فقط أتمتع بتلك الإشراقة التي لا تغيب .. و ملك لي كل درجات الأخضر .. أستقلي على العشب، و تستسلم الغيمات لي أرسمها كيفما شئت .. ! لم أكن أهذي أو جننت .. كنت فقط في الحافلة التي تقلني إلى عملي .. أحاول الخروج عن الروتين اليومي بهروب صغير أو كبير كما يبدو إذ صعدت للفضاء هذه المرة و امتلكت كوكبا لي وحدي ! فما ضير الهذيان و ترك النفس تسبح على هواها في بحور الخيال كما تشاء؟! .. العالم لن يتغير، و لن أجن فأصدق تغيره حتى لو فعل .. فما الضرر ؟! ها هو .. أخيرا ... مطبي الاصطناعي المفضل .. اقترب .. أتهيأ له .. نفس عميق .. أغمض عيني .. يغمرني الظلام .. تصعد الحافلة عليه .. و عند قمته .. موجة هائلة من النور تقتحم عيني المغمضتين .. فيبدو النور كأنه ينبعث من داخلي .. إشراقة داخلية عارمة .. تهبط السيارة و يغيب الضوء .. أفتح عيني ..يبدو العالم أفضل الآن .. ها هي لحظة من سعادة أقتنصها و لا علم لأحد بها فيأخذها مني .. سعادتي الصغيرة .. سري الرائع الذي سيصنع من يومي شيئا يمكن احتماله .. و بينما أنا أهدهد سعادتي الصغيرة و أهنيء نفسي عليها .. صوت صراخ من السيدة إلى جواري .. من نظرة واحدة أفهم السبب .. تمسك ببطنها المنتفخة بيد و بالأخرى تعتصر فخذي و بفمها تعلن عن طفل قرر أن الوقت قد حان لينظر للعالم نظرة قد تطول و قد تقصر .. قد يجني منها شيئا و قد تمزقه بضع كائنات طفيلية و تحوله إلى كائن هلامي لزج .. بالطبع .. غمرني الرعب .. تمنيت أن يفعل أحدهم شيئا .. أن يجعلوها تصمت أو حتى يحرروني منها مؤقتا لحين التوصل لحل يشمل الصراخ أيضا .. قرروا أنها تلد و أن الحافلة يجب أن تمضي بها إلى المستشفى و أن من تستطيع المساعدة تتجه للمقاعد الخلفية حيث الحالة .. و هذا ما حدث .. امراتين تتجهان للخلف و الرجل الجالس إلى جوار المرأة الصارخة يترك مقعده و يمضي للأمام .. و أنا عاجزة عن النظر إلى جواري .. تصم أذني الصرخات المتتالية منها و تمزق فخذي يدها .. ربما أفقدني الصراخ الوعي بما حولي أو ربما هو الألم، فلم أفق إلا و قد ارتخت قبضتها عن فخذي .. و قبل أن أتمكن من التقاط بعض الهواء فوجئت بكتلة توضع بين ذراعي، تلقائيا أمسكت بها .. غمرني ملمسها اللزج و رائحة الدماء .. نظرت إليها .. كان طفلا لا يزال متصلا بحبله السري .. ملوث بالدم و بسوائل مخاطية .. نظرت إلى أمه .. كانت تبدو فاقدة للوعي .. و المرأتان تبحثان عن شيء لا أعرفه، و إذ بدا عليهما اليأس انتزعت إحداهما خيطا من ملابسها و ربطت به الحبل السري .. لم أفهم و لم أسأل .. انشغلت بهذا الشيء بين ذراعي .. كيف تمكنت أمه من التخلي عنه ؟! .. كيف تركته يخرج منها ؟! .. طفلي لم يكن ليخرج مني أبدا .. هل من الممكن أن تصبح الكتلة بين ذراعي طفلي ؟! .. ليست المشكلة في كيفية التخلص من والدته .. إنما كيف أضعه داخلي يا ترى ؟! .. لا يمثل أي شيء لي و هو في الخارج هكذا .. كيف .. لم أتمكن من إكمال تساؤلي .. انتزعته مني إحدى المرأتين .. كانت الحافلة قد توقفت أمام المستشفى و .... انتهى الأمر بالنسبة لي .. انتهى اليوم كذلك .. لا عمل .. فقط عودة للمنزل بفستان مطرز بورود صغيرة و مخاط و بعض دم .. و ها هي مزق حلم قررت أن تعود لممارسة عمل أحبته .. الأحلام لا تؤذي الأطفال فلا يخافون منها، و لو تمزقت تتولد من بقاياها أحلام جديدة ناصعة .. أما الكبار، فلا يخشون شيئا أكثر من الحواف المسننة لها .. ..... جاءنا اليوم.. يحمل في يده الحلوى و على وجهه ابتسامة .. تمت خطبتي و أنا أرتدي فستانا ورديا، لا أتحرك .. صلبتني في مكاني نظرته المتحفزة و نظرة عمتي المتوعدة ..و الابتسامات البلهاء للجيران جعلت طعم القيء يصل إلى فمي .. ثم طلبت مني عمتي أن أمضي للمطبخ لأجلب قطع الحلوى التي أحضرها ليتناولوها فوق جثتي .. ذهبت، و أنا منهمكة في رصها على الأطباق، فوجئت به إلى جواري .. " هل تحتاجين إلى مساعدة؟! " لم تكن للكلمات من قوة لتعبر عن وجودها المهتريء .. هززت رأسي أرفض مساعدته .. " أنت جميلة جدا .. " سقطت قطعة حلوى من يدي و استقرت منبعجة على أرضية المطبخ .. أمسكت يده ذراعي .. و بالأخرى حرك وجهي ناحيته لأرى ابتسامته المنتصرة .. " أتخجلين مني ؟! " جعل لمسه لي جسدي ينتفض رافضا .. خلصت نفسي منه و أسرعت خارجة .. صوبت عينا عمتي نحوي سهامهما .. لم أبال .. جلست بين بعض الجارات ألتمس من وجودي بينهن الحماية .. أسرعت عمتي للمطبخ تحاول إصلاح ما أفسدت رعونتي .. مؤجلة عقابها إلى حين .. .... لم يخبرني يوما أنه يحبني، كانت نظراته تكفي تماما .. كنا نمضي الساعات في الحديقة العامة التي تفصل مكان عملي عن جامعته .. يحدثني عن آماله في أن يصير كاتبا مشهورا، و تحدثني عيناه عما يغلبه الخجل ..أحدثه عن سعاداتي الصغيرة : عشقي للبالونات الحمراء و الفساتين الوردية، جنوني بشقائق النعمان .. و عن أحلامي بالطيران بعيدا .. و ما أكرهه كالاقتحام و الفضول الزائد و المراجيح .. الكلمات تخرج من فمي لتصف ما بداخله .. لم تكن مهارة في الوصف أمتلكها .. بل كنا جزءان لحلم واحد .. أخبرني يوما عن مشاكله و أمه الأرملة مع أعمامه الذين يبغون الاستيلاء على ميراث أبيه .. أخبرته أن المال لا يهم .. أفحمني بأن من يترك حقه لا يستحق الهواء، و أن المال ليس كل ما يمكن أن يموت الإنسان لأجله .. أفزعني لفظه للموت بتلك البساطة، فطالبته بالاحتراس .. ابتسم و قال أن الاحتراس غير وارد مع هؤلاء القوم و أنه لا يضمن أبدا أن يتركوه لحاله، و لا قبل له بتفاديهم لو أرادوا موته، و أن بعض الطرق في الحياة ربما تكون قد تحددت سلفا .. أصبح هاجس فقده غرابا ينعق، و تحولت رغبتي في طفل منه إلى هوس يطلب تحققا بلا إبطاء .. .... في ذلك الجزء البعيد من عقل طيف، الذي تحتله ملايين من الخلايا العصبية التي تمثل أسماء .. بعضها تمزق و أصبح لا فائدة له و البعض الآخر تزوره بضع نبضات كهربية كل ليلة عندما يستولي النعاس على طيف، و إذ تدخل عيناها في مرحلة حركتهما السريعة، يصيب تلك الخلايا بعض من حياة .. تتلاحق الصور سريعة في البداية .. رجل ببذلة تشع جمالا و مهابة، يقود طائرته بين الغيوم بكل براعة، و يقود المحبة و الشغف في قلب ابنته بلا أية عراقيل .. امرأة قررت أن الحياة هي ابتسامة رجل أحبته .. منزل ريفي رائع تحوطه حديقة صغيرة معتنى بها .. امرأة بقفازين تلطخا بالطين و طفلة تختلط روحها بعبير الزهور .. ثم تثقل الصورة كأنه العرض البطيء .. هاتف ملقى على الأرض .. امرأة بيدين نظيفتين و قلب متوقف لثوان و عينين زجاجيتين .. طفلة مستغرقة في النوم يشع وجهها بملامح الغائب الذي لن يعود .. منزل أدرك أن سعادته الصغيرة قد انتهت و أن على جدرانه الاعتياد على نوع آخر من المشاهد .. تتعاون الصور مع الجزء الخاص بالمشاعر لإعادة إنتاج ما فات و خلق دوافع جديدة تؤرق طيف بلا أسباب واضحة لها .. امرأة بائسة قررت أن تحتمي ببيت صغير في الحديقة ابتاعته و أسكنت فيه كلبا .. الكلب سئم من اختفاء اللصوص في القرية الهادئة.. قرر مطاردة القطط السيامية التي لم تتمكن المرأة من التخلص منها لأنها تشعرها بشيء من دفء العائلة الكبيرة و تجعلها تؤمن بقبس ضئيل من براءة و خير نحو العالم يتبقى داخلها إذ تطعمها و تعتني بها .. وجدت جثثا لقططها البريئة .. قتلت الكلب ببندقية صيد كانت جزءا من ديكور المنزل .. و إذ أصبحت بقية القطط تمثل ضعفها الداخلي و تذكرها به قامت بالتخلص منها جميعا .. دست لها السم .. ثم دفنتها إلى جوار الكلب مضيفة سمادا للحديقة التي لم تجد من يشذبها فتضخمت و تشعبت كأنها الأدغال معطية للمنزل بعدا أسطوريا مليئا بالشجن .. بقيت هي و ابنتها و ذكريات تطاردها كأشباح عنيدة لا تمل .. كبرت الطفلة و تحددت فيها ملامح أبيها أكثر، و كل يوم يكبر داخل الأم شعور لا تدري كنهه .. و لم تفهمه أبدا حتى عندما كان يدفعها لأن تؤذيها .. كان ذاك الشعور الذي يتملكنا ناحية الذكريات التي تسبب لنا ألما .. مزيج من رغبة الهروب، المقت، الاستسلام و استعذاب الألم .. ثم و قد ضاق بنا الغضب .. رغبة في تمزيقها و التخلص منها تماما .. كان المنزل مولدا لتلك الذكرى .. لم يكن تحطيم بعض محتوياته في ساعات الغضب بالشيء العسير أو الذي يجلب الكثير من الشعور بالذنب بعده .. ماذا عن تلك الطفلة التي تملك ملامح أبيها تماما ؟! لم تكن المشكلة في الملامح .. تعمق إحساسها بالفقد و الخواء إذ كانت الطفلة تملك وجه أبيها لكنها تفتقد لرائحته .. كأنها صورة بلا حياة كصوره العديدة التي مزقتها .. وجود الطفلة أصبح يؤكد الفقد في كل لحظة .. .... كنت أعرف أني لن أراه مجددا .. ذهب إلى بلدته و طالت غيبته .. بدأ العام الدراسي و لم يعد .. لن يعود .. استمر شوقي إليه و وجعي لفراقه طيلة شهور الصيف .. غضبت عليه أيضا لأنه لم يراسلني .. لما تأكدت من غيبته النهائية .. مكثت في فراشي أسبوعا لا أغادره و لا أملك فكرة محددة عما يحدث حولي .. ثم استيقظت يوما و قد اختفى الألم و رحلت معه السعادة .. ذهبت للعمل كأن شيئا لم يحدث .. الفرق فقط أني تحولت من كائن هلامي لزج .. إلى كائن هلامي لزج متجمد .. ..... هناك نافذة .. أحد وجهيها يقابل دنيا الماضي .. مولد الأحلام .. طفلة باسمة بفستان قصير يصل حتى الركبة و يكشف عن طراوة ذراعيها و امتلائهما .. شعرها الكستنائي الذي ورثته عن أمها يلمع تحت شمس نيسان الربيعية .. تصادق الأزهار و الفراشات .. صورة رائعة لحلم .. ثم تدخل للحلم يدان و صوت لامرأة غاضبة .. الصوت " لا تتركي شعرك مفرودا هكذا .. " " لماذا ؟! " " عيب .. " و اليدان تجمعان الخصلات بشريط قماشي . تلك النافذة .. وجهها الآخر يواجه الحاضر .. منشأ الواقع .. فتاة في بداية عقدها الثاني .. قررت أن تخرج في رحلة لاقتناص سعادة هربت منها .. أخرجت فستانا قصيرا بلا أكمام كانت لا ترتديه إنما تخبئه لمناسبات لا تأتي .. ارتدته محاولة طرد الخجل، فالخجل لا يصلح لاقتناص الفرح .. انتعلت حذاء بسيطا .. تركت شعرها الكستنائي يغمر كتفيها .. قررت أن تسير بلا حقيبة .. بلا احتياطات مسبقة أو تكهنات .. استسلمت لخطواتها البطيئة تأخذها لأي اتجاه تشاء .. تركت لشمس نيسان المعطرة بروائح الزهر أن تستكشف جسدها و روحها كيفما يحلو لها .. بدأت زهور الأمل في التفتح داخلها و آمنت بقرب حصولها على مأربها .. رسمت ابتسامة على وجهها تشجيعا لتلك السعادة الهاربة كي تأتي .. و هنا أيضا .. تقتحم الصورة يدان .. تفقدان إحدى ثمرتيها الغضتين على صدرها براءتها الأولى .. حلق الأمل مبتعدا .. هنا الصوت لها .. شهقة ملتاعة .. تكومت على الأرض .. ماذا حدث ؟! فقدان ذاكرة مؤقت كان التشخيص الملائم .. صار إحساس اللزوجة أكثر سماكة و نهاية البئر التي تسقط فيها لا تأتي .. أصبح السقوط سقوطا فقط، سقوطا لانهائيا .. ..... قالوا أنه أصبح زوجي .. متى ؟! .. لا أدري ! .. هكذا صار .. وهكذا مشى بي متبخترا إلى بيته .. بيته الذي لن يصبح أبدا بيتي .. عند باب البيت رأيت طفلة تنتظرني ..وجهها أشعر أني أعرفه .. شعرها كستنائي يشبه شعري .. عيناها حزينتان .. دخلت معنا البيت .. لم يبد على الذي أصبح زوجي أنه لاحظها .. كانت في البداية تتقدم خطونا ثم بعد أن تركني لأدخل غرفة النوم و ينتظر هو في الصالة، ساعدتني على إمرار الفستان من الباب، دخلت ورائي و أغلقت الباب خلفنا .. ساعدتني على تبديل ملابسي ثم أخذتني في حضنها و نمنا سويا .. مرت بنا رجفة إذ فتح الباب .. دخل منه مبتسما، و تقدم إلى الدولاب و أخرج ملابس النوم خاصته و اتجه إلى الحمام، خرج بعد قليل و على وجهه نفس البسمة كأن الكاميرا تعطلت و لم تتمكن من تغيير تلك الصورة عن وجهه .. اقترب منا، انتفضنا جالستين في نفس اللحظة، جلس بقربنا على السرير .. أمسك يدي .. علا وجه الطفلة نظرة غضب فانتزعت يدي منه بقسوة .. بدا عليه الانزعاج و محاولة شاقة لاجترار الصبر ..كان جسدي متيبسا و باردا جدا و لم أقو على الحركة .. مرر يده على شعري ثم على وجهي ببطء ..شعرت كأن دوامة من بخار ملتهب تملأ رأسي و كدت أصرخ لكن صوتي لم يخرج، عوضا عن ذلك تصرفت الطفلة كما فعلت سابقا و أبعدت يده لكن بقسوة أكبر .. بدا أن مورد صبره قد نفد .. جذبني إليه بقوة و لم تفد محاولات الطفلة في إبعاده فبدأت في البكاء و الصراخ .. أما أنا فقد تزايدت حدة دواماتي و بدأت أفقد الشعور بما حولي .. ثم رأيت طريقين .. واحد مظلم و أعطاني النظر إليه شعورا بأني لو دخلته فلن أشعر بشيء أو أتذكر أي شيء .. و طريق آخر كله دوامات ساخنة و في نهايته ضوء أزرق .. قررت عبور الأخير، فالضوء الذي رأيته لأول مرة سيطر عليَّ بشيء أعظم من الفضول لم أعرف طبيعته .. مضيت إليه .. غمرني ألم الاحتراق .. جلدي يحترق و يتمزق .. و لما وصلت إلى الضوء أخيرا كنت قد فقدت جلدي و ضاع معه الإحساس بالألم .. مددت يدي إليه .. و إذ أصبح لقاؤنا دانيا، جذبني شيء للخارج ..صوت هادر و يدان تجتذبانني .. " هيا .. استيقظي .. أفيقي !! " كان هو يهزني .. نظرت إليه بلا فهم تقريبا .. لم أستطع تحليل كلمة "هو" التي أصدرها عقلي.. لم أعرف من هو .. نظرت حولي و لم أتمكن من التعرف على أي شيء .. ثم نظرت إليّ .. غمرني شعور قوي بأن جسدي لا يخصني .. كأنه ملتصق بي رغما عني .. شعرت بألم لاتصاله بي، بدأ الألم على شكل وخز بسيط ثم امتد ليبسط موجاته فوق كل جزء مني .. "مني" التي لم يعد جسدي ينتمي إليها .. صار وجوده ألما مبرحا .. نهضت مسرعة، و كأني أمشي على جمر تركت الغرفة التي لم أكن أميزها حينها .. وجدت طبقا للفاكهة و عليه سكين .. أخذت السكين و جلست على الأرض و بدأت في فصل قدمي .. بعبارة أخرى كنت أقطعها .. مع رؤية الدماء أصبح ثقل موجات الألم يخف عني .. ثم فجأة امتدت يد تمنعني .. أمسك " هو " بيدي و حاول انتزاع السكين مني .. تحولت موجات الألم لموجات غضب تفوقها حدة .. شعرت بمقلتي تكادان تهربان من محجريهما من فرط الغضب .. انتزعت يدي منه بقوة لم أتصور امتلاكي لمثلها، ثم طعنته بها .. طعنته؟! .. اخترقته أفضل .. اخترقته كأني أخترق أكواما من الضباب تكاثفت حولي و منعت عني الرؤية .. أخذت أطعنه و أخترق لا أعرف كم .. ثم بدأ يتضح .. مع زوال الضباب بدأ نوري الأزرق يتضح مجددا .. لم أعرف ماهيته لكني شعرت بأن كنوز الراحة تكمن هناك في طياته الأثيرية .. فاتجهت إليه .. هرولت إليه .. و عند اقترابي رأيت تلك الطفلة تخرج منه و تمد يدها إليّ .. أمسكت بها و دخلناه سويا ... ....... في ذلك الركن الظليل من حديقة المصح النفسي تجلس طيلة النهار، و من فرط هدوئها تظن أن الطير ربما حط عليها ظنا منه أنها تمثال جامد .. يعلو وجهها هدوء مريح و تشع منها طمأنينة تغمر من ينظر إليها .. Comment *