احتفى كثيرون من مفكرينا وفلاسفتنا بفيلسوف التنوير ابن رشد؛ لكن الإنصاف يقتضي القول بأن الدكتور محمد عابد الجابري، هو أكثر من تناول مؤلفات وشروح أبي الوليد على نحو من الدراسة الوافية والرؤية المعمقة والتحليل الرصين، كما أنه صاحب فضل كبير في كسر حلقة التجاهل الذي عانى منها فكر الفيلسوف القرطبي لقرون طويلة. يقول الجابري:" ما تبقى من تراثنا الفلسفي، أي ما يمكن أن يكون فيه قادرا على أن يعيش معنا عصرنا، لا يمكن أن يكون إلا رشديا"، ويضيف "إن ترشيد الإسلام السياسي والتخفيف من التطرف الديني إلى الحد الأقصى لا يمكن أن يتم بدون تعميم الروح الرشدية في جميع أوساطنا الثقافية ومؤسساتنا التعليمية". يرى د.محمد عابد الجابري أن السبب الرئيس في نكبة ابن رشد كان ما أبداه من آراء سياسية مست أمور الحكم وشرحت عواقب الاستبداد في معرض كتابه الضروري في السياسة: مختصر كتاب السياسة لأفلاطون. ذهب ابن رشد إلى الإيمان بالإصلاح التدريجي الذي يستلزم النفس الطويل، ورأى أن السياسة هي العمل الصالح وليست الأقوال، كما خالف أفلاطون بقوله أن المدينة لا تكون فاضلة بالأعمال فقط بل لابد من الآراء، أما المدن التي تفضل بأعمالها فقط فقد سماها ابن رشد بالمدن الإمامية، ومنها مدن الفرس القدامى.. لكن هذه المدن ما تلبث أن تتحول إلى مدن غلبة عندما يتحول الأئمة إلى طبقة تدافع عن امتيازاتها، وتسعى إلى تنفيذ أغراضها دون النظر لمصالح الناس. يشير الدكتور الجابري إلى أنه بالرغم من أن ابن رشد قد وصف مؤلفه عن جمهورية أفلاطون بالضروري والمختصر إلا أنه في الكتاب التاسع الذي يتناول صورة الحاكم المستبد "أرخى العنان لقلمه ليطنب في نقل جميع ما خطه قلم أفلاطون في هذا الموضوع الذي تكلم فيه عن تجربة ومعاناة، إذ كان قد خبر بنفسه الاستبداد عن قرب". ويضيف د. عابد أن ابن رشد اختار صيغة الحوار لعرض رأي أفلاطون، وأنه استفاض في تحليل مضمون الخطاب بصورة جعلت القارئ يحس أن ابن رشد "لا ينقل وإنما يتكلم من عنده، بعقله ووجدانه" لقد خاطب ابن رشد أهل زمانه بخطاب صريح مباشر لا مناورة فيه "مستعملا مصطلحا أصيلا هو (وحدانية التسلط)". في عبارة شديدة الوضوح يصف ابن رشد حال المستبد الطاغية "وحداني التسلط" كما أسماه فيقول" ولهذا يعظم هذا الفعل منه – أي الاستبداد بالحكم- على الجماعة؛ فيرون أن فعله عكس ما قصدوه من تسليمه الرئاسة، لأنهم إنما قصدوا بذلك أن يحميهم من ذوي اليسار- يقصد المترفين المستغلين ناهبي الأقوات- ويقربهم من ذوي الفضائل والخير وأمثالهم من أهل المدينة- لما كان هو من أصحاب الحكم والسلطان- ليستتب أمرهم بسياسته وسياسة خدامه". وينظر ابن رشد في مآلات ذلك الضيم الواقع على العباد فيقرر أن الجماعة الغاضبة تسعى والحال كذلك إلى إقصاء ذلك المستبد عن المدينة وإخراجه منها" فيضطر هو إلى استعبادهم والاستيلاء على عتادهم وآلة أسلحتهم، فيصير حال الجماعة معه كما يقول المثل: "كالمستجير من الرمضاء بالنار" وذلك أن الجماعة إنما فرت من الاستعباد بتسليمها الرئاسة إليه؛ فإذا هي تقع في استعباد أكثر قسوة. وهذه الأعمال هي جميعا من أعمال رئاسة وحدانية التسلط، وهي شيء بين أهل زماننا هذا ليس بالقول فحسب، ولكن أيضا بالحس والمشاهدة". ومن يقرأ هذا القول ليس منسوبا لصاحبه- ظن إنما هو خاص بزماننا نحن في أوائل القرن الحادي والعشرين، حيث إن طبائع الاستبداد وطرائق الاستعباد راسخة في النفوس، باقية في الأذهان لا تتبدل مهما طال الزمان، وهذا إنما مرجعه كما بين ابن رشد إلى غياب الرأي الذي هو السبيل إلى استقرار دعائم الحكم القائم على العدل؛ لذلك لا ترى مستبدا إلا ويسعى إلى تجهيل الناس والزراية بالعلم، والحط من شان المشتغلين به. ويرى ابن رشد في "وحداني التسلط" هذا أنه "أشد الناس عبودية، وليس له حيلة في إشباع شهواته، بل هو أبدا في حزن وأسى دائمين. ومن هذه صفته فهو ضعيف النفس، وهو حسود وظالم لا يحب أحدا من الناس. وذلك أن هذه الصفات لما كانت موجودة فيه قبل الرئاسة، فهي ألزم به بعدها. وبالضرورة لا ريب أن يكون اليوم الذي يواجه فيه مآله ومصيره يوما عسيرا؛ لأن من يركب البخت والاتفاق و(المصادفة) كثيرا ما يُستخف به، وهذا كله بيّن وجلي من هؤلاء، كما قلنا مرارا، لا بالقول فحسب بل بالمشاهدة أيضا". ويتساءل الجابري عن أي مشاهدة كان يكتب ابن رشد عن مشاهدة أفلاطون أم عن مشاهدته هو، إن هذا اللبس المتعمد إنما أراد به ابن رشد أن يشرّح واقعه، ويكشف عن آفة الحكم في زمانه ومكانه؛ لينبه إلى خطورة أن يظل الحاكم سادرا في غيه متصورا أن صبر الناس عليه، إنما هو دليل سيطرته الكاملة وخضوعهم النهائي. لقد رأي ابن رشد انقلاب الحكم في دولة الموحدين من زمن العلم والثقافة والثراء المعرفي الذي يفتح الآفاق نحو التقدم والازدهار- الذي كان يمثله الأمير المتنور أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، الذي كان ابن رشد مقربا منه، إلى دولة الظلم والاستبداد التي تعتمد على التدين الزائف والقوة الغاشمة المتمثلة في حكم المنصور يعقوب بن يوسف.. وشتان بين الحكمين.. وقد لحقه أذى النفي والاضطهاد والاتهام بالنظر في علوم الأوائل من فقهاء المنصور المحرضين على الفتنة. يرى الجابري أن ابن رشد قد سعى إلى إعادة فتح باب الاجتهاد، وأبرز الحاجة إلى قيام مجتهد في كل عصر، وكان كتابه "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" خطوة أولى على طريق استئناف الاجتهاد الذي توسع فيه ليشمل إلى جانب الفقه نطاق العقيدة لأن ترك التقليد المرذول لا يكون إلا بالاجتهاد في علم العقيدة "وذلك بتجديد النظر لا في مبادئها – فمبادئ الشرع لا تحكمها مبادئ العقل- بل في الفهم الذي كونه الناس لأنفسهم لتلك المبادئ. ومن هنا يكتسي الاجتهاد والتجديد معنى "التصحيح" وهو ما قطع فيه فيلسوف قرطبة شوطا مهما بكتابه "الكشف عن مناهج الأدلة". لقد لفت الجابري النظر إلى عظم الفائدة المرجوة من إعادة القراءة والتمحيص لتراث ابن رشد الفكري، وبذل جهودا محمودة في هذا المجال، وقدم للفكر العربي أجل خدمة، وترك لنا إرثا يضارع إرث ابن رشد قيمة وتفردا.. لكننا سرنا مع الرجلين على نفس النهج الذي يقوم على النبذ والإهمال.. بل تركناهما وحيدين لتنال منهما سهام الناقمين وأصحاب دعوات التكفير الذين لا ينقطع ظهورهم المشين في كل عصر ومصر.. لكن وعيا تفرضه ظروف واقع لن يستسيغ ذلك الرقاد طويلا سيبعث الرجلين مجددا.. ونأمل أن تحقق الأجيال القادمة تلك الاستفادة الحقيقية من هذا الإرث العظيم.