أول سطر يجب أن يُكتب في أوراق عصر "نور عنينا" هو أن أحداثه ليست مستوحاة من الخيال أو عالم اللامعقول، وأن أي تشابه بينها وبين الجنون هو أمر وارد جداً، مع تنبيه السادة المقيمين في "أد الدنيا" بعدم تداول أي وقائع أو تفاصيل أمام الأطفال والمرضي والحوامل، خشية حدوث انتكاسات مفاجئة لا يُحمد عقباها. يبدو المشهد الماثل حالياً أمام أعين المصريين متناقضاً وعصياً علي إدراك العقلاء، فما يرونه من ترتيبات تسبق أهم عملية سياسية عرفتها البشرية كفيل بجعلهم أقرب نفسياً للانتحار، وليس التوجه بمشاعر مطمئنة يكسوها الفخر لاختيار من يمثل أحلامهم لا من يعايرهم أو يدعوهم بنبرة تهديد إلي الإذعان له، فهذا لم يكن مقبولاً تحت سلطة الاحتلال، والأغلب أننا تحررنا فبات حاكمنا واحداً منا، لا يمتاز عنا بعرقه أو سلفه أو جاهه. ليعلم كل قاصٍ ودانٍ أن أي انتخابات هي أولاً للوطن والسياسة وليس لشيء آخر، فهي مكسب سياسي انتزعه المصريون عبر رحلة ممتدة منذ عهود الحكم بالوراثة مروراً بالحاكم الأوحد والانتخابات الصورية، وليس مقبولاً أن تتحول إلي دُمية في يد شخص بعينه مهما بدا متفرداً في عبقريته.. هي بوصف مجازي أقرب إلي شجرة ضاربة بجذورها في الأعماق، نضجت إحدي ثمارها في 25 يناير ثم ما لبثت أن فسدت إثر لهفة المنتفعين لخطفها، لكنها دوماً ستبقي جاثمة فوق صدور الخائفين والمتلونين والكارهين لمطالب وبديهيات الإنسانية.. "الحرية، العدالة، الكرامة". مؤكد أن كل شيء جائز في عالم السياسة ما عدا هذا الشيء الموجود في مصر.. فالنظام الحاكم الذي تفرد بصنع أول معجزة في ملحمة "تيران وصنافير"، بتنازله عن الأرض ثم الاستماتة في التفريط عبر المحاكم وسجن المعارضين وتشويه القضاة، يكرر انفراداته بمعجزة جديدة اسمها "الانتخابات الرئاسية".. فاعتقال المرشحين المنافسين إن لم يكن سابقة، ونزول أحد المؤيدين بالأمر المباشر لاستكمال مفردات المشهد الصوري، إن لم يكن سابقة، وترويج المشهد من قبل "دعاة الضلال" بوصفه نزيهاً وحراً بامتياز، إن لم يكن سابقة، فالسابقة حقاً والتي تحمل طابعاً مصرياً صميماً هي أن الشخص الذي يتقلد أرفع منصب سياسي يعترف علناً وفخراً بأنه.. "مالوش في السياسة". هذه ليست أعجوبة يتيمة، ففي بلادنا تكثُر العجائب بدرجة تُثير الحنق وتضاعف شهية البعض للرحيل يأساً.. نحن لم نتقهقر للخلف علي المستوي السياسي عشرات السنوات فحسب بل زادت معدلات الفقر والبطالة والتضخم بشكل يهدد استقرار البنية الاجتماعية بصورة مخيفة، وبهذا يخالف نظام "نور عنينا" تلك المعادلة التي رسخها الحكام في مصر لسنوات، وكانت سبباً في إبقاء عروشهم مستقرة لفترة طويلة، وهي بإيجاز: "كلوا واشربوا وإعملوا.. ولكن دعوا السياسة وشئونها لنا". قطعاً سيدافع الغير عن هذا المشهد العبثي حتي الاقتتال، وسيجتهد بعضهم لتقديم التبريرات للنظام وقصف ما دونه بالمدفعيات الثقيلة، وهم معذورون لتشابك المصالح والطموحات.. ولا شك أن آخرين غيرهم سيدافعون من باب "درء المخاطر" خشية أن تطولهم الأيدي الباطشة والمتعطشة للقمع.. وجزء آخر سيدافع استناداً إلي ثقافة نشأ عليها اسمها "الرئيس الأب" و"ولي الأمر" و"الله يولي من يصلح".. ولكن يبقي هناك فريق سيظل ممسكاً قدر استطاعته بحلم الإنسانية حتي وإن بدا مختلفاً أو متعارضاً مع الذات الرئاسية، وهنا أقتبس من الأديب الأمريكي تشارلز بوكوفسكي مقولته الشهيرة: "أينما يذهب الحشد، إذهب في الإتجاه الآخر، إنهم دائماً علي خطأ". هناك من يظن أن الكلمات لا تصبح ذات جدوي إلا في ظل أجواء سياسية معتدلة وليست عاصفة كالتي نشهدها الآن، فالعبث لا يمكن مواجهته بأحاديث المنطق، والحماقة قد تكون أشد فتكاً من رصاصة بندقية تخترق رأسك، لذا يرون أن الأنسب للمرحلة هو الانسحاب والصمت والتسلي بمشاهدة عروض الساحر والفتوة آكل الحديد والنار.. هم محقون دون شك، ولكن هناك علي الضفة الأخري من يؤمن بأن كلمة واحدة قد تقودنا يوماً ما نحو عالم جديد يثمن الإنسان ولا يحتقره. يُخطئ من يظنها حرباً ضد حاكم أو تسعي وراء الغنائم والأمجاد.. وهي أيضاً ليست حرب نكاية أو مكايدة أو مشحونة بالرغبة في الانتقام والتنكيل بالخصم، فلن يتقلد المنتصر فيها وساماً أو يُرفع فوق الأكتاف وكأنه المُظفر بدين الله.. فلا مهزوم ولا منتصر في معركة يثار غبارها داخل وطن واحد، ومن أجل وطن نريده حراً بلا قيود، فالقيود لا تصنع إلا شعباً من الجبناء والخائفين، والخوف هو أول الطريق المُفضي إلي السقوط.