تقريبا هذا المقال رقم مئة، الذي أحتاج فيه أن أفتتح ما سأكتبه بمقدمة عن غزة. كتبت عشرات المقدمات فيما قبل، وجمّعت من معاجم اللغة، بكل ما أوتيت من مصطلحات، وآهات وأوّات، كي أمهّد للقارئ، وأُدخله في وضعية الحقيقة، التي لم تعد تخفى على أحد، ولم يعد بإمكان أحد، التنصّل منها وإنكارها. 2 مليون إنسان بدم ولحم وقلب وعقل وعواطف وحاجات وطموحات وأوجاع وكسرات، يعيشون داخل هذا القطاع، الذي تحتاج لعدسة مكبّرة، كي تحدد معالمه على خريطة العالم، هذا العالم الذي يوماً بعد يوم، يزداد كراهية وظلماً وعدوانا. غزة يا أيها السادة، غزة. المدينة التي تعبت وملّت، وسئمت وانتظرت، وكثيراً ما خذلها القريب والبعيد، ولا زال شعبها هنا وهناك، يستشهد أبناءه على نقاط التماس دفاعاً عن القدس، في وقت يكون فيه آبائهم يفكّرون كيف يوفرون لهم الطعام، إذا ظلّوا أحياءً بعد المواجهة. ماذا نفعل؟ وكيف نخرج من كل هذا البؤس؟ وكيف سنوفّق بين قضايانا الوطنية الأساسية، وبين مطالبنا الحياتية كبشر، نحتاج أن نرى يوماً جميلاً في منتصف شبابنا؟. من هنا كانت فكرة، فكرة صغيرة، جالت في خواطر شباب من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة، وهي التغريد بعيداً، عن المسار السياسي الذي تتبعه كافة التنظيمات الفلسطينية، والصراخ في وجه الجميع، كفى! "الحراك الشعبي" مصطلح زاد انتشاره في عام 2017، حين افتتح مخيم جباليا شمال القطاع العام الماضي بهبّة شعبية ضخمة، شارك فيها عشرات الآلاف، للمطالبة بحلّ مشكلة الكهرباء التي يعاني منها شعبنا الفلسطيني منذ سنين. هبّة وتحرّك شعبي لم يسبق له مثيل، وكان يومها ليس لتشييع جثمان شهيد، ولا للمطالبة بحقّ العودة؛ بل كان من أجل توفير الكهرباء، وهو في مضمونه، كان يوصل رسائل المعاناة، كانت الجماهير تريد كهرباء ومعابر وعملا ومستقبلا وقليلا من الحياة في هذه المدينة البائسة. تجربة كانت رائعة، عشتها أنا شخصيا، باعتباري منظّما برفقّة اثنين من أصدقائي، لهذا الحراك الشعبي، ولاقت حينها إقبالاً غير طبيعي لدى الشارع الفلسطيني، الذي أدرك أن هناك طريق، يمكن من خلالها الضغط، ويُمكن من خلالها فرض كلمة الشارع والجماهير. طريق كانت شاقّة جداً علينا، دفعنا خلالها من وقتنا وأمننا داخل المعتقلات وغرف التحقيق، ولكن استطعنا أن نوصل للجميع، أن هناك شيئاً يُمكن فعله. مرّ عامٌ بعد الحراك الأول الذي انطلق في يناير 2017 في مخيم جباليا، لتعود نفس الفكرة في نفس الشهر، في هذا العام الحالي، وفي نفس الموقع، على مفترق الترنس وسط مخيم جباليا، ليتفق ثلّة من أبناء الشعب المخلصين، على الخروج للمطالبة بكافة الحقوق الإنسانية، وإيصال رسالة خطر بات يلوح بالأفق، ورائحة ديناميت شعبيّ، آل لأن ينفجر في وجه الجميع. شهدت الشهور الماضية حراكاً سياسياً نحو إنهاء الإنقسام الفلسطيني، وعاشت الشارع في غزة حالة من الترقّب الحذر، لما سيترتب على هذه المصالحة من حلول لقضايا عديدة طالما كانت موطئ ألمٍ للجماهير الغاضبة، ولكن لحتى الآن، لم يلمس المواطن الفلسطيني أي تغييرات في أي قضية من القضايا، وسط نزاع بين الأطراف الفلسطينية "فتح وحماس" في إيصال رسالة للشارع بأن الطرف الآخر هو من يتحمل المسؤولية عن عرقلة المصالحة، فكل طرف من الأطراف، يُريد مصالحة على هواه، ووفق ما يخدم بقائه ووجوده، حتى ولو بزجّ أبنائهم بين الشباب الثائرين والكادحين، الخارجين للمطالبة بحقوقهم الطبيعية، ليهتفوا من أجل حزبهم! مخيم جباليا أوصل قبل يومين رسالة إنذار، فلا أدري إن كانت قد سمعتها الأطراف المعنيّة، ولا أدري إن كانت رؤية هذه الأطراف تجاه هذه التحركّات الشعبية بأنها مجرّد حالة غضب لحظية، تنتهي بعد بضع هتافات، وأن طريقة إحتواء أي تحرّك هي الطريقة الناجعة للسيطرة والبقاء، فهنا حتماً تكون هذه الأطراف، تسير في ضباب شديد، وتعوّل على مزيد من الصبر لشعب لم يعد يحتمل أي شيئ. المطلوب الآن، أن يتم إعادة كينونة الإنسان واحترامه، في هذه البلد، وأن يُقدس الحق البشري قبل كل المصالح والرغبات الحزبية، التي أعادت شعبنا للوراء، وساعدت الاحتلال ومن معه، في التجرؤ على إعلان القدس عاصمة لدولة الكيان، فالجوعى لا يحررون أوطاناً، والمنقسمون لا يفرضون واقعاً، ونظام سياسي مشتت وممزق، من الطبيعي أن يكون موضع استخفاف من العدو والصديق. آن الأوان أن يعود الدم الفلسطيني موحداً من جديد، وآن الأوان لشعبنا في غزة أن يعيش ظروفاً غير التي يعيشها، وآن الأوان أن يتم طيّ صفحة الظلام من تاريخنا إلى الأبد، فلا أبالغ لو قلت بأن مرحلة الإنقسام هذه، نجحت إلى حد ما، فيما فشلت فيه دولة الاحتلال على مدار سبعين سنة، وهو كيّ الوعي الوطني، وإلهاء الناس في قوت يومهم، قبل ثوابتهم ومقدساتهم.