غزة، المدينة العجوز، غالبية سكانها في عمر الشباب. شباب لا يكاد يرى أمامه مسير خطوتين، فهو لا يعلم كيف سيكون غداً، فقط هو الآن على قيد الحياة، بأقل الإمكانيات التي تؤهله لأن يكون كذلك! مشاكل غزة عديدة ومتنوعة، لو بحثنا في معظمها سنجد أسبابها اثنين، الاحتلال، والانقسام. هاتان المشكلتان اللتان تنغصان عيش الناس، وتحرمهم حتى من التيار الكهربائي، في زمن تُقدّر به حضارات الأمم بحسب استهلاكها للطاقة. مشكلة الكهرباء هي كابوس يطوف فوق رؤوس العباد في هذه الأرض، والعيش وفق جداولها أيضاً بات مؤرّقاً وغير مستصاغٍ لأحد. الكل سئم من الظلام، وسئم من التهميش المُمارس عليه حتى من قيادته، وبات ينتظر لحظة يخرج بها، ويصرخ كفى، وفي شمال غزة حدث ذلك، وصرخ الجميع: #بدنا_كهرب ! الدعوة للحراك والتنظيم له من دون أي تخطيط مسبق لحراكات أو خروج جماعي، فقط كنا مجتمعين في إحدى الليالي، أنا وصديقي شكري أبو عون، ومحمد التلولي، في غرفة صغيرة، والشمعة مشتعلة، وتذكّرنا أننا أصبحنا شباب، ونحن لا زلنا نحتاج الشمع، كي نرى بعضنا! نحن من جيلٍ لا يذكر أن الكهرباء كانت تأتي بشكل كامل يوماً ما، جيل لا يعي غير الحروب وغياب الكهرباء، واغلاق المعبر، وحالة الطوارئ هذه التي تعيش بها البلدان التي تحت الحرب. قررنا أن ننظم حراكا شعبيا خالصا من أي إنتماء أو بوصلة سياسية معيّنة، فنحن نعلم أن الشعب فقد ثقته بالتنظيمات والفصائل، وأنه بحاجة لحاضنة شعبية تمثّل وتنقل صورة المعاناة الحقيقية التي يعيشها، وبالفعل، وفي نفس جلستنا، حددنا المكان على مفترق "الترنس" في مخيم جباليا شمال غزة، المخيم الذي منذ أن كان، وهو طليعة العمل النضالي والوطني، والموعد في يوم الخميس الثاني عشر من يناير للعام الحالي الساعة الرابعة عصراً. وبدأنا نستغل حسابات الفيس بوك خاصّتنا، وأطلقنا هاشتاق #بدنا_كهرب، وهاشتاق #مستمرة، والعديد من وسائل التفاعل مع الجمهور الذي بدأ يعرب عن استعداده للمشاركة والتأييد لنا، وفي طوال أيام الدعوة للحراك طالبنا الجمهور بالتزام السلمية، والحرص على نقل صورة حضارية وديموقراطية تليق بحجم شعبنا العظيم وبحجم معاناته ومشواره النضالي والتحرري. وعدم تجيير بوصلة الجمهور لأي وجهة سياسية تخدم فصيل أو تنظيم معيّن، سواءً كان فتح أو حماس أو غيرهما. وبشراكة منا ومن بعض الاصدقاء الذين انضموا، طبعنا عدداً من النسخ للبيان الذي أصدرناه في اطار الدعوة للحراك، اضافة للفيديوهات والاغاني التي انتشرت مع تفاعل الجمهور عبر صفحات التواصل. ما قبل يوم الحراك وما بعده قبل الحراك شهد الشارع الفلسطيني ارهاصات لحراك كبير ينطلق من احدى المناطق في هذه البلد الملتهبة، وكانت هناك وقفات من الفصائل وقوى العمل الوطني في مناطق مختلفة مثل رفح وغزة والوسطى وغيرهم، وبعض المسيرات الشعبية العفوية التي كانت تخرج من احتقان الناس وغضبهم من غياب الكهرباء لأكثر من عشرين ساعة يومياً، ومع عدم تفاعل الجمهور مع هذه الحراكات بالشكل المطلوب، وُجّهت كل الأنظار نحو الشمال، وحراك الخميس الذي يدعوا له النشطاء عبر مواقع التواصل، وبالفعل كانت الصدمة. الساعة الثالثة بدأ الترنس محط انظار الشباب الذين ينتظرون الرابعة على جمر، وبعدها بدأ البعض يتجمّع هنا وهناك، حتى بدأ الناس يشجعون بعضهم، أتينا وبدأنا بالهتافات والشعارات التي قررناها منذ البداية، ( سلمية، عدم الانتماء لأي تنظيم)، وبدأت الجماهير تهلّ من كل حدب وصوّب، ناس تخرج من منازلها ركضاً نحو الترنس، الكل يُريد ان يشاهد، مسيرة شعبية لمطلب إنساني، فهم يفتقدونها في هذا المكان منذ سنوات ! كبرت الجماهير بشكل غير متوقّع، أعجزنا نحن المحمولين على الاكتاف، بحناجرنا، أن نُسمع الآلاف من الشباب والرجال والأطفال الغاضبين والممتلئين بالكبت جرّاء هذه الحياة التي يعيشونها، وبدأنا نسير بالجمهور لنطوف المخيم والشوارع، حتى صار الناس يسيرون بشكل آليّ، نحو شركة الكهرباء، التي تقع على بعد بعض كيلوميترات من المخيم. حاولنا أن نمنع وصول الجماهير إلى هناك، لأننا نعلم بأنها ستحتك وربما تتواجه مع الأمن الذي سيحمي بدوره شركة الكهرباء، ولكن ذلك لم يحصل. بل ظلت الجماهير تسير وتهتف سلمية، حتى وصلت مقدمتها من الأطفال الذين يتقدمون كل مسيرة في العادة، إلى نهاية شارع السوق في مشروع بيت لاهيا، وفوراً سمعنا إطلاق النار! علمنا وقتها أن الأمور خرجت عن السيطرة نهائياً، وأننا بصدد مواجهة بين جماهير مؤلفة ورجال الأمن الذين تصدوا بالعصي والهروات والرصاص في الجو، وفعلاً هذا ما حدث. أخلينا منازلنا على الفور انا واصدقائي ممن نظموا ودعوا للحراك، وقررنا أن نظل بعيدين عن الأعين وعن الأجهزة الامنية، حتى نتابع ما سيجري وما يجب علينا فعله لإحتواء الشارع وعدم إثارة فوضى عارمة ومستعرة، خاصة في ظل وجود أطراف تسعى جاهدة لإثارة مثل هذه الأزمات في غزة، وأولها الإحتلال الإسرائيلي، وبعدها بيوم صوّرنا فيديو نُثني به على مشاركة الجماهير ومطالبة كافة الأطراف التروي حتى 72 ساعة، كي يستطيع الساسة إيجاد حل للأزمة بشكل سريع وممكن. ما ترتّب على الحراك على صعيد المشكلة. بعد يومٍ من الحراك، أي يوم الجمعة، تم عقد إجتماع للفصائل الفلسطينية وبمشاركة من حركة حماس وممثلين عن حكومة التوافق، وتم الإتفاق على جُملة من البنود بخصوص الكهرباء، كان أبرزها 1. رفع ضريبة البلو وكل الضرائب الخاصة بالكهرباء بشكل نهائي. 2. القيام بالدفع عن المرافق الحكومية وتسهيل تدفق الوقود للمحطة بشكل كامل. 3.حلّ مجلس ادارة شركة الكهرباء وتشكيل مجلس ادارة جديد بإجماع وطني. 4.متابعة تنفيذ شراء الخط من الكهرباء (161)، ومتابعة توسعة المحطة وتحويلها للعمل بالغاز الطبيعي بدلاً من الديزل. 1. البحث عن تمويل للعمل بالطاقة البديلة والطاقة الجديدة. أما على الصعيد الدولي، فقد تقدمت قطر بالتبرع بمبلغ 12 مليون دولار، واستعدت تركيا بتوفير الوقود اللازم لتشغيل المحطة. راكبو الأمواج وكيف تم حل الأزمة؟ بعد فض الحراك تم اعتقال العديد من الشباب والشخصيات المحسوبة على تنظيمات مثل الجبهة الشعبية وفتح وغيرهم، وتم إيقاف الكثيرين وتوقيعهم على تعهد بعدم المشاركة بأي حراكات مقبلة، ووُجهت الإتهامات للجبهة والجهاد الاسلامي بأنهما المسؤولين عن هذا الحراك وعن تبعياته، الأمر الذي زاد حدة التوتّر بين التنظيمات وقياداتها، وزاد حدة احتقان الشارع، وأغرى العديد من الأطراف والمنابر الاعلامية لاستغلال الحالة وبث سموم الفتنة والفوضى في الشارع الفلسطيني، من خلال الدعوة للنزول بالسلاح الأبيض والملوتوف والكثير مما لا ينتمي للحراك الشعبي المطلبي والسلمي. في تلك الفترة كنا على تواصل بسيط مع الحالة والإعلام، ومن خلال ذلك فهمنا أن هناك محاولات لتجيير الحراك وسرقته لتنفيذ مخططات واجندات دخيلة علينا وعلى أفكارنا، وقررنا قطع الطريق على كل هذه الأطراف بالإعلان عن أننا خلال الحراك فقدنا السيطرة على الجماهير، وصرّحنا بعدم مسؤوليتنا عن الصفحات التي تحاول انتحال شخصياتنا والتحفيز على العنف والفوضى، وأننا راضون بالنتائج التي أخرجها هذا الحراك، والتي قمت بكتابتها سابقاً. وهذا ما تفهّمه الجمهور أولاً، و أجهزة الأمن والقائمون على غزة، بعد عدة مداهمات لمنازلنا، بأننا خرجنا لأجل مطلب إنساني، وأننا لا نريد إثارة فوضى في هذه البلاد، وأننا ملتزمون بالأمن والسلم، ولا نخدم أي أجندات خارجية. ومن خلال بعض الإجتماعات بين الوساطات الحقوقية والسياسية المختلفة، والتي كان أبرزها قيادة الجبهة الشعبية والجهاد الإسلامي، تم الإتفاق على الإفراج عن كافة المعتقلين، و إيقاف ملاحقة الشباب القائمين على الحراك. وبحمد الله انتهت الأزمة حالياً، وعاد كل طرف لبيته، وعادت الكهرباء لجدول الثماني ساعات، أي، تأتي لثماني ساعات، وتفصل في الثمانية الآخرى، وهو الحد الأقصى لمجيئ الكهرباء منذ أعوام في غزة. ولكن، هل فعلاً إنتهت الأزمة، وهدء الشارع، أم أننا بصدد بداية لحراكات مقبلة، للبطالة والإنقسام واغلاق المعبر وغيرها من المشكلات؟