أصبح من السهولة أن تختلط الأوراق إلى حد أن يصعب التمييز بين المقاوم والمغتصب، الشقيق بالدم وسافك الدم، شهيد الأرض وقاتل الأطفال.. فما عادت الحقائق واضحة كما كنا نراها، بل تاهت وتلونت وسط مئات التبريرات، فبات العدو محل شك وجدل والخيانة مجرد وجهة نظر. لم يعد البحث في تاريخنا القديم مثيراً للشغف والدهشة بقدر ما نعيشه الآن من إثارة.. فمن كان منكم يسأل عن كيف سقطت الأوطان؟ ومن أضاعها؟ ولماذا خان من خان؟ ولما تهاونت الشعوب وصمتت بهذا القدر المخجل؟.. فرجاء أن ينظر حوله جيداً ليجد الإجابة الجلية علي أسئلته، وسيعرف عندها أن التاريخ يعيد نفسه بذات التفاصيل والأحداث ولكن فقط مع تغير الوجوه والأسماء. في هذه الأيام انتفض حكامنا الأشاوس دفاعاً عن كل ما هو باطل، فأجمعوا علي أن الخطر المحدق بالأمة مصدره إيران وحزب الله، وأن كليهما واجهة للإرهاب تهدد الاستقرار وتقوض حالة الأمان التي ترفل فيها الشعوب العربية.. وأقنعوا أنفسهم في النهاية بضرورة التوحد استعداداً للمواجهة الوشيكة، كما أرادوا بالمِثل إقناعنا أن طهران وحسن نصر الله هما عدونا رقم واحد. لا جدال أن الملف الإيراني ساخن ويثير شهوة البعض، خاصة من يجيدون استدعاء الدين إلي ملعب السياسة.. فأحاديث السنة والشيعة تسيل اللعاب لتجديد الانشقاق واستحضار مشاهد حروب انطلقت منذ 1400 عام، والحديث عن خطورة المد الشيعي علي الإسلام ما زال يلقي رواجاً عند كثيرين، لذا أصبح من اليسير إشعال تلك الحرب المقدسة للحفاظ علي العروش الوثيرة، وهي عند أصحابها أكثر قداسة من الدين والإله ذاته. في أعراف السياسة عند العرب، يتغير فقه الأولويات بحسب تغير مصالح الحكام وليس مصالح الشعوب.. فالآن نحن جميعنا شهوداً علي عملية إزاحة الكيان الصهيوني من دائرة الأعداء مقابل استبداله بحزب الله، ليصبح نتنياهو أقرب إلينا من نصر الله.. فعدو العدو صار عدوي أنا أيضاً، وهي نظرية جديدة يدشنها حكامنا وقد تدفعنا بلا وعي لخوض حرباً بالوكالة ضد إيران. ليست مفارقة أن يكون عدو الحكام العرب الأول هو نفسه العدو الرئيسي لأمريكا والكيان الصهيوني، وهو ما يعود لحالة الود والانسجام المتبادل بين صاحب البيت الأبيض وحكامنا المسارعين إلى تنفيذ فرمانات "الكاوبوي" بمنتهي الجدية والالتزام.. وها نحن نستعيد مجدداً مشاهد مماثلة عندما تورط حكامنا السابقون في حرب ضد الاتحاد السوفيتي بأفعانستان لوقف ما سمي وقتها ب"المد الشيوعي"، وأفتي حينها بعض شيوخنا الأجلاء ممن نقدسهم ليومنا هذا بأنها حرباً حتمية لعزة الإسلام، وأن الموت فيها شرف وشهادة.. وقد صدقوا فيما حدثوا بأنها حرباً للموت، وكذبوا يقيناً في أنها كانت حرباً لأجل الشرف. بعد سنوات طويلة من تلك الحرب المقدسة، حق علينا أن نساءل الجميع حياً أو ميتاً، وحق أن نسأل أنفسنا أيضاً بغضب: هل كانت حقاً حرباً للدفاع عن الدين؟ وهل تحققت بها عزة الإسلام؟ وإذا لم تكن.. فلماذا نكرر السيناريو ذاته؟ ومن المستفيد من قرع طبول حرب جديدة تحت غطاء ديني؟ ألا يوجد في أمة العرب حاكم رشيد يمكنه تفادي هذا الصراع الأحمق؟. يبدو المشهد العربي مخجلاً لدرجة تثير التقزز وليس الرثاء، فالحكام باتوا من الضعف بحيث تأتيهم الأوامر من الرياض، ومملكة آل سعود باتت من الضعف بحيث أصبحت رهينة لأوامر البيت الأمريكي، فقد صار الجميع متعلقين بذيل "العم سام" بغية داوم عروشهم وسلطانهم، ولا عزاء للشعوب التي أصبحت مجرد رقم غير مؤثر في حسابات الحكام. سواء انطلقت الحرب المقدسة أم أخفقنا في إشعالها، فيكفينا فقط شرف المحاولة.. فلم يحالفنا التوفيق هذه المرة للقضاء علي الشقيق العربي والمسلم، ولكن حتماً في المرات القادمة سنتمكن من الإجهاز عليه تماماً، وشن الحرب المقدسة التي سيفني الجميع من بعدها، ولن يبقي فيها إلا صديقنا الجديد "يهوذا الخائن".