أحداث متسارعة دفعت بجمهورية زيمبابوي إلى مقدمة الاهتمام العالمي، حيث تشهد هذه الدولة الفقيرة الواقعة في جنوب إفريقيا انقلابًا عسكريًّا كامل الأركان، يقوده الجيش ضد الرئيس وحاشيته، الأمر الذي يحبط آمال الرئيس الزيمبابوي، روبرت موغابي، الذي كان يسعى إلى نقل السلطة إلى زوجته "جريس"، ويقضى على مستقبله السياسي نهائيًّا. "منانجاجوا".. يفجر الأزمة لم يكن الرئيس "موغابي"، الأقدم في القارة الإفريقية، يعرف أنه بالتوقيع على قرار إقاله نائبه، إيميرسون منانجاجوا، المُقرب إلى الجيش من منصبه، يكتب نهاية مشواره السياسي، وأن خططه الرئاسية بتقريب زوجته "جريس موغابي" إلى السلطة لتكون خلفًا له، من شأنها أن تقضى على حياته السياسية بشكل كامل، وتسرع من انفجار أزمة سياسية، ربما تكون الأولى في تاريخ الجمهورية. كانت شرارة الأزمة قد اشتعلت في 6 نوفمبر الجاري، مع إعلان السلطات الزيمبابوية إقالة نائب الرئيس "إيميرسون منانجاجوا"، لأنه لم يكن مخلصًا فى عمله، حيث قال وزير الإعلام، سيمون خايا، إن سلوك "منانجاجوا" فى أداء مهامه مخالف لمسؤوليات المنصب، وأضاف الوزير أن نائب الرئيس المقال، البالغ من العمر 75 عامًا، الذي عمل رئيسًا سابقًا للمخابرات، أظهر سمات لعدم الولاء وعدم الاحترام والخداع وعدم الثقة، مشيرًا إلى أنه "أصبح من الواضح أن طريقته في تنفيذ مهامه باتت غير متناسبة مع مهامه الرسمية". زوجة الرئيس.. السبب الرئيسي بعيدًا عن بيان الإقالة الذي ألقاه وزير الإعلام "خايا"، فقد أكدت مصادر زيمبابوية أن "منانجاجوا" تمت إقالته بعدما دخل في مواجهة مع "جريس موغابي" زوجة الرئيس، المعروفة بلسانها السليط، والتي يطلق عليها البعض "النقمة" و"المتسوقة الأولى" خلافًا للعديد من الألقاب التي تعبّر عن الاستياء الشعبي إزاء أسلوب حياتها المسرف، حيث يرفض "منانجاجوا" خطه الرئيس خلافة زوجته له في منصبه الذي يتولاه منذ أكثر من 35 عامًا، وقد اشتعلت هذه الأزمة خلال الفترة الأخيرة، بعدما سعت "جريس" إلى إبعاد كل خصومها ومنافسيها على منصب الرئاسة من المشهد العام للبلاد، حتى تهيئ لنفسها منصب زوجها، لكن ظل نائب الرئيس "إيميرسون منانجاجوا" يقف عقبة أمام خططها، خاصة أنه كان الأوفر حظًّا لخلافة "موغابي"، الأمر الذي دفعها إلى انتقاده أكثر من مرة كتمهيد لإقالته. الجيش يحذر لم تمر ساعات طويلة على قرار إقالة "منانجاجوا"، حتى اشتعلت الأمور أكثر، حيث وجه الجيش الزيمبابوي تحذيرًا غير مسبوق للرئيس "موغابي"، طالب خلاله قائد الجيش الجنرال، كونستانتينو شيوينجا، موغابي بالتدخل لإنهاء حملة تطهير ضد حلفائه في الحزب الحاكم، وقال "شيوينجا"، الذي ظهر في مؤتمر صحفي مع أكثر من تسعين من كبار الضباط، إن حملات التطهير داخل الحزب والتي تطال أشخاصًا لهم تاريخ مرتبط بالتحرير يجب أن تتوقف، وأضاف أن الجيش لن يتردد عن التدخل لحماية الثورة، لافتًا إلى أن الحزب الحاكم يعمه عدم الاستقرار، مما يتسبب في القلق في البلاد. تحذير قائد الجيش للرئيس الزيمبابوي أثار غضب حلفائه، الذين سارعوا بالرد على "شيوينجا"، من خلال تحذيره من التدخل في السياسة، حيث طالبت رابطة شبيبة الحزب الحاكم "زانو بي أف"، التي تدعم تولي زوجة موغابي منصب نائب الرئيس، طالبت رئيس الأركان بالبقاء في ثكنته، وقال زعيم الشبيبة، كودزاي تشيبانغا، إن الرابطة لن تسمح للقوات المسلحة بالتعدي على الدستور، وإنهم مستعدون للموت دفاعًا عن موغابي. في الوقت نفسه، سارع حزب الاتحاد الوطني الإفريقي الزيمبابوى، الذي يُعد الجبهة الوطنية الحاكمة، إلى الرد على تحذير قائد الجيش، قائلاً إنه "لن يذعن مطلقًا للضغوط التي يمارسها الجيش"، حيث وصف بيان قائد القوات المسلحة، بأنه "سلوك يتسم بالخيانة"، مضيفًا أنه ملتزم بسيادة السياسة على السلاح، إلا أنه اتهم قائد القوات المسلحة "كونستانتينو تشيونجا" بمحاولة زعزعة الأمن والاستقرار في الدولة. تحرك سريع لم ينتظر الجيش الزيمبابوي المزيد من المناقشات، ولم يُبدِ اهتمامًا بالأخذ والرد كثيرًا مع حلفاء الرئيس "موغابي"، بل بدأ في اتخاذ إجراءات فعلية وتحركات عملية سريعًا وبشكل مفاجئ، منفذًا بذلك تهديداته بعد ساعات من إطلاقها، حيث أعلنت قيادة الجيش في زيمبابوي في 15 نوفمبر الجاري التحرك والاستيلاء على السلطة، في هجوم قالت إنه "يستهدف مجرمين محيطين بالرئيس"، وأكد الجيش في بيان مقتضب أن ما يحدث في البلاد ليس انقلابًا والرئيس روبرت موغابي وأسرته بخير، وتلا ضابط في الجيش يدعى "سيبوسيوي مويو" البيان عبر التليفزيون الرسمي، قال فيه إن ما يقوم به الجيش مجرد استهداف للمجرمين المحيطين بالرئيس موغابي، مضيفًا "حالما تُنجز مهمتنا نتوقع عودة الوضع إلى طبيعته"، مؤكدًا "نود أن نطمئن الأمة إلى أن فخامة الرئيس وأسرته بخير وأمان وسلامتهم محفوظة". وفي إطار التحركات العسكرية، ألقى الجيش القبض على وزير المالية، إجناشيوس تشومبو، الذي يُعد عضوًا بارزًا في جناح بالحزب الحاكم يعُرف باسم "جي 40" وتتزعمه "جريس موغابي"، كما انتشرت قوات عسكرية في الشوارع وبسطت سيطرتها على محطة الإذاعة والتليفزيون الحكومية، وأمروا العاملين هناك بالمغادرة، وأغلق الجنود مع عرباتهم المصفحة الطرق والشوارع المؤدية إلى مقر الحكومة ومبنى البرلمان والمحاكم وسط العاصمة هراري. بالتزامن مع تحركات الجيش، هزت العاصمة هراري ثلاثة انفجارات مدوية، كما سمع إطلاق نار كثيف قرب مقر إقامة رئيس زيمبابوي، روبرت موغابي، في ضاحية بوروديل بالعاصمة، وفي اليوم التالي عقد القادة العسكريون لقاء مع "موغابي" في محاولة لإقناعه بالاستقالة طوعيًّا من منصبه، إلا أنه رفض ذلك. "موغابي" إلى الاستقالة قسرًا يبدو أن الضغوط العسكرية التي فرضها الجيش في البلاد، دفعت الحزب الحاكم "الاتحاد الوطني الإفريقي لزيمبابوي – الجبهة الوطنية"، إلى التخلي عن رئيس البلاد ودعوته إلى الاستقاله من منصبه بشكل رسمي، حيث قال الحزب، في بيان تم نشره في الجريدة الرسمية، إن ممثلين عن جميع لجانه التنسيقية ال10 في محافظات البلاد عقدوا اجتماعًا، أمس الجمعة، واتفقوا على دعوة موغابي للتنحي عن السلطة وكذلك التخلي عن منصب الأمين العام للاتحاد، كما دعا الاتحاد الوطني، غريس موغابي، إلى الانسحاب من الحزب الحاكم، واعتبر الاتحاد أن موغابي فقد السيطرة على ما يجري في حزبه وحكومة بلاده بسبب كبر سنه. في ذات الإطار، دعمت اللجان الإقليمية للحزب أيضًا إجراء مسيرة تضامنية في العاصمة هراري، تأييدًا لتصرفات القوات المسلحة في زيمبابوي، وهي الدعوة التي دفعت بعشرات الآلاف من سكان زيمبابوي للخروج إلى الشوارع للاحتفال بالإقالة المتوقعة لرئيس البلاد، وقال شهود عيان إن المشاركين في المسيرة يهتفون: "اذهب، اذهب، يا جنرالنا" و"لا لسلالة موغابي الحاكمة"، وقد أعلن الجيش عن دعمه للمسيرة في بيان صدر عنه قال فيه إن القوات المسلحة أكدت أنها "تدعم المسيرة بالكامل ما دامت منظمة وسلمية". ردود فعل دولية تباينت ردود الأفعال الدولية بشأن الأزمة في زيمبابوي، حيث قال رئيس الاتحاد الإفريقى والرئيس الغيني، ألفا كوندى، إن ما يحدث فى زيمبايوى "يبدو أنه انقلاب"، مضيفًا: من الواضح أن الجنود يحاولون الاستيلاء على السلطة بالقوة، داعيًا الجيش فى زيمبابوى إلى وقف أفعاله، فيما عبر "كوندي" عن إدانة المنظمة الإفريقية لتصرفات كبار الجنرالات في زيمبابوي، معبرًا عن بالغ قلقه حيال الوضع الجاري في البلاد. من جانبه دعا الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، الأطراف في زيمبابوي للهدوء وضبط النفس في زيمبابوي، وقال متحدث باسمه إن "المنظمة الدولية تتابع تطورات الوضع، وتدعو للهدوء ونبذ العنف وضبط النفس، والحفاظ على الحقوق الأساسية بما في ذلك حرية التعبير والتجمهر"، فيما دعت الولاياتالمتحدةالأمريكية كل الأطراف للعمل على حل النزاعات بينها بهدوء وسلمية، في إطار عمليات ديمقراطية ودستورية شفافة، وأكدت وزارة الخارجية الآمريكية، في بيان لها، أن سفارتها في "هراري" تراقب تطورات الوضع عن كثب، فيما دعت رعاياها في زيمبابوي إلى "الاحتماء حيث هم، بسبب الغموض الراهن في الوضعين السياسي والأمني". في ذات الإطار، وصفت وزارة الخارجية البريطانية، المستعمر السابق لزيمبابوي، الوضع السياسي في هراري بالغامض، ونصحت رعاياها الموجودين حاليًّا هناك بالبقاء آمنين في منازلهم أو في محل سكنهم لحين اتضاح الموقف. موغابي.. قبضه حديدية منذ 37 عامًا يعد "روبرت موغابي" الرئيس الأقدم في القارة الإفريقية، حيث يبلغ من العمر 93 عامًا، قضي منها ما يقرب من ثلثها في حكم البلاد، حيث إنه يحكم الدولة بقبضة حديدية منذ عام 1980، فقد انتخب رئيسًا للجمهورية أول مرة عام 1987، وأعيد انتخابه عام 1990، ثم انتخب للمرة الثالثة في عام 1996، وللمرة الرابعة عام 2004، وللمرة الخامسة في 2008، هذه المرة التي أحدث فيها أنصاره اضطرابات ومشاحنات ضد حزب ومؤيدي زعيم المعارضة تشانغيراي، أسفرت عن مقتل نحو مائتي شخص، وهو ما لم يمنعه من الترشح لولاية سادسة في 2018، لكن يبدو أن تحركات الجيش الحالية ستمنعه من ذلك. ولد موغابي يوم 21 فبرابر عام 1924 في مدينة كوتاما بزيمبابوي، لأسرة تنتمي لشعب الشونا، الفصيل العرقي الذي يشكل 80% من زيمبابوي، وتخرج في جامعة "فورت هير" في جنوب إفريقيا عام 1951، وحصل على 8 شهادات جامعية تتراوح بين البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، ويُعد "موغابي" ديكتاتورًا من طراز خاص، حيث بدأ مشواره السياسي عام 1960 بانضمامه للحزب الوطني الديمقراطي المعروف باسم "زابو"، وبعدها بثلاثة أعوام تم حل الحزب والقبض على مؤسسيه من قوات الاستعمار البريطاني، وكانت هذه فرصة موغابي لتأسيس حزب جديد يرأسه هو، وبالفعل أنشأ حزب "الاتحاد الوطني الإفريقي" المعروف باسم "زانو"، والذي يهدف لمقاومة الاحتلال البريطاني. وبعد تحرر زيمبابوي من الحكم الاستعماري عام 1980، شغل موغابي منصب رئيس الوزراء في نظام "كنعان سوديندو" الذي حكم البلاد 7 سنوات، إلى أن توفي ليجد "موغابي" نفسه أمام فرصته السانحة للجلوس على عرش الدولة التي كانت محط أنظار الجميع في ذلك الوقت. مرت البلاد في عهد "موغابي" بعدة أزمات، ما بين انهيار المنظومة الصحية والاقتصادية على خلفية بعض الإجراءات التي اتخذها في ال15 عامًا الأخيرة، حيث نجح في تحويل البلاد من قبلة للمستثمرين ورجال الأعمال إلى أفقر بلدان القارة، وتراجعت معدلات النمو في زيمبابوي إلى 2.6% مقارنة ب5% لدول جنوب الصحراء في الفترة من 2002- 2012، كما عرفت هذه الفترة انتشار البطالة وتفشي الأمراض، أبرزها وباء الإيدز، بالإضافة إلى تضخم الدين الخارجي. اعتمد الرئيس برنامج الإصلاح الزراعي، والذي قضى بنزع ملكية الأرض من ذوي البشرة البيضاء في عام 2000، وهو الأمر الذي انتهى بانهيار القطاع الزراعي الحيوي في البلاد، بينما دفعت انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد وقمع المعارضة، الدول الغربية إلى فرض مجموعة من العقوبات ضد زيمبابوي، ناهيك عن انهيار المنظومة الصحية بين عامي 2008- 2009، حيث عجزت الدولة عن تقديم أبسط الخدمات لمواطنيها، مما أدى إلى انتشار مرض الكوليرا، ووصلت نسبه المصابين إلى 100 ألف شخص، توفي منهم نحو خمسة آلاف؛ بسبب سوء النظام، وعدم توفر الخدمات اللازمة للعلاج.