بعد ساعات من استقالة الحريري المفاجئة للجميع، بمن فيهم الحريري نفسه، وعلى ضوء ما جرى ويجري في السعودية منذ أمس الأول من توقيف عشرات الأمراء السعوديين بمن فيهم ذوي النفوذ والحصانة مثل الوليد بن طلال ومتعب بن عبدالله، لم يعد احتمال أن تكون استقالة رئيس الحكومة اللبنانية جزء من المشهد الداخلي في السعودية مستبعداً، سواء لظاهر الاستقالة التي سوغ الحريري في بيانه المعد سلفاً أسبابها في قالب سعودي صرف بعيد كل البعد عن لبنان، وخاصة أن الحريري حتى قبل ساعات من سفره للسعودية وإعلان استقالته من هناك، كان يبدي تعاطي ايجابي مع كافة الملفات اللبنانية الداخلية، أو لخفوت الدوافع التي ساقها في بيان الاستقالة، وكذلك دوافع أخرى استنتجت من مسار الأحداث في اليوميين الماضيين خاصة داخل المملكة. السيسي على خط الأزمة وفيما يبدو أن اتساع دائرة ما حدث، ليتجاوز لبنان والسعودية، سيكون له نصيب من التعاطي من قبل أطراف إقليمية ودولية. وفي هذا الإطار كان الطلب العاجل لرئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري، من الرئيس عبد الفتاح السيسي بالتدخل لدى السعوديين لتبيان ما حدث وما سيحدث، وخشية السيسي أن يكون الحريري قيد الإقامة الجبرية، وهو ما يعني وفق ما نشرته جريدة الأخبار اللبنانية من شرم الشيخ، حيث تم لقاء السيسي وبري، أن حجة مؤامرة اغتيال سعد الحريري التي ساقتها الرياض ليست صحيحة، بحسب ليس فقط الأجهزة الأمنية في لبنان، ولكن أيضاً المخابرات العامة المصرية، التي نفت بحسب ما قاله السيسي لبري أن يكون هناك أي محاولة أو تخطيط لاغتيال الحريري. "الاستقالة السعودية" حسبما يُطلق عليها حالياً في لبنان، لم يقبلها الرئيس اللبناني ميشيل عون، إلى حين عودة الحريري، ليزيد هذا مع تعاطي القوى السياسة في لبنان مع ما حدث على أنه إملاء سعودي، حتى من داخل تيار المستقبل الذي يرأسه الحريري، الذين تفاجئوا مما حدث مع غياب أي مؤشر سابق له وتطمينات الحريري بعد عودته إلى لبنان من السعودية، وقبل ذهابه مره أخرى إلى هناك لتحدث الاستقالة، التي أدت إلى توتر غير مسبوق داخل تيار المستقبل له مناحي عديدة بداية من الأمن الشخصي لرموزه، مروراً بدوافع الرياض من هذا التصعيد الذي سيحتم تسخين للأجواء الداخلية في لبنان ويضرب أسس التسوية والتعاطي مع رئيس الجمهورية منذ عام مضى، وصولاً إلى مصير الحريري شخصياً. احتمالات وتفسيرات هنا نجد بالتتابع المنطقي لما حدث أن هناك عدة دوافع منطقية لهذه الاستقالة السعودية، بخلاف ما جاء في بيان الاستقالة الذي لم يقنع حتى تيار المستقبل؛ وهي أن تكون استقالة الحريري بداية تصعيد سعودي جديد ضمن صراعها مع طهران عبر بيروت، يهدف إلى عودة الرياض لممارسة نفوذ تقليدي في لبنان بعد تراجع على مدار السنوات الماضية، أو أنها تهدف لخلق حالة من الفراغ الحكومي في الداخل اللبناني وتأزيم داخلي قد يكون مفيداً حال أرادت إسرائيل شن حرب على لبنان بغطاء سياسي وإعلامي سعودي، أو أن إجبار الحريري على الاستقالة يرتبط بدوافع داخلية سعودية خاصة وأن ما يحدث حالياً في السعودية يتناسق مع غياب الحريري عن التواصل والاتصال مع حتى أقاربه ورموز تياره خلافاً لرئيس الجمهورية اللبنانية. ويثمن من هذا الدافع خلافاً لتهاون مبررات الدافعين السابقين كما سنبين أدناه، ما ألمح له السيسي أثناء لقاءه مع بري؛ وهو الأمر الذي يدفع في احتمالية أن يكون الحريري بشخصه قد تورط في الصراع العائلي على الحكم في السعودية فكان إجباره على الاستقالة، ومحاولة توظيفها سعودياً في الصراع مع إيران كما شاهدنا خلال اليومين الماضيين عبر وسائل الإعلام السعودية، واستقبال مختلف الأطراف لها. الدافع الأول والمرتبط بتصعيد سعودي ضد إيران عبر لبنان قد يكون صحيحاً في حال أن الرياض قررت في عز أزمتها الداخلية والخارجية أن تشن هجوماً في بلد مثل لبنان لا تمتلك فيه مقومات تجعل تحقيق أي انجاز سياسي على مستوى صراعها مع إيران شيء مضمون، أي أنها مقامرة منها إلى فعل سياسي من المؤكد أنه سينتج عنها تقويض فرص عودة السعودية إلى لبنان من بوابة التصعيد وقلب الطاولة على الجميع في وقت تميل فيه موازين القوى لصالح الفريق الأخر، بخلاف أن هذا الأمر لم يحقق شيئاً في 2006 وبعدها، ووقتها كانت السعودية في لبنان أقوى مما هي عليه الأن، وبالتالي يبقى احتمالية أنه تمهيد لعمل عسكري ما ضد لبنان بقيادة السعودية، وهذا الأمر يتنافى مع بديهيات المنطق العسكري بل وحتى المنطق الأرسطي. الدافع الثاني وهو توفير السعودية لغطاء سياسي وإعلامي لعدوان إسرائيلي على لبنان، يتنافى مع خشية إسرائيل من أي تصعيد عسكري مع حزب الله بتقديرات عسكرية وأمنية إسرائيلية تشير إلى عدم استطاعة الجيش الإسرائيلي خوض معركة في الوقت الراهن شمالاً، بخلاف بقاء معادلة الردع بين الطرفين كما هي، ناهيك عن أن قرار الحرب في إسرائيل لا يأتي من الخارج، وبالتالي حتى وإن كانت الرياض تستعجل تطبيق وتفعيل تحالفها مع تل أبيب في لبنان أولاً، فإن تل أبيب لا ترى في ذلك مصلحة لها. وفي الأصل لا تهتم إسرائيل كثيراً بما يحدث في الداخل اللبناني لكي تحدد توقيت الحرب، وبالتالي استقالة الحريري من عدمها لا توفر شيئاً ولا تعطي شرعية مثلاً لعدوان إسرائيلي على لبنان. يتبقى هنا الدافع الثالث، وهو تورط الحريري في تحرك داخل البيت السعودي ضد ولي العهد محمد بن سلمان، وهو الأمر الذي يتوافق بشكل كبير مع الدلائل والمعطيات التي حدثت قبل وبعد الاستقالة، ناهيك عن شكلها وإخراجها، ويتأكد هذا في سياق ما حدث في السعودية وفي لبنان على مستوى داخلي، وتعاطي كافة الأطراف معه، بما فيها غياب الحريري وانقطاع الاتصال به، وكذا ما حدث بين السيسي وبري وتعليق الأول حول مسألة الإقامة الجبرية ومسألة مؤامرة الاغتيال المزعومة. يبقى أن هذه الاحتمالات تسير في مسارات متوازية، أي أنها غير منفية بالكامل، لكن معظمها لا يمتلك مقومات كافية لتحققها باستثناء احتمال الدافع الثالث المتعلق بالصراع الداخلي في المملكة، ويتلاءم أيضاً مع نهج المملكة في سياساتها الخارجية في الأعوام الأخيرة، والمبنية على الارتجال حسب الموقف لا عن إستراتيجية واضحة المعالم والأهداف، ويتسق أيضاً مع ما يحدث في داخل المملكة ومفاعيل الانفراد بالسلطة وتركيزها مع الثروة في يد ولي العهد. ترجيح هذا الاحتمال ينقلنا إلى تفسيرات حول ما الذي جعل السعودية تجبر الحريري على الاستقالة، فهل لم يعد الحريري مناسباً ليمثل ويعبر عن مصالح السعودية في لبنان وبالتالي تمت الإطاحة به عبر إجباره على الاستقالة، وخاصة أن الحريري وفق التسوية التي أتت به رئيساً للحكومة يتمسك بالتعاطي الإيجابي معها حتى قبل استقالته بيوم واحد، وهو الأمر الذي قد يعيق تصعيد بن سلمان تجاه لبنان، خاصة وأن هذا التعاطي الإيجابي ارتبط بسيولة داخل تيار المستقبل نتجت عن غياب الحريري عن لبنان لسنوات قبل رجوعه كرئيس للوزراء العام الماضي، وجعلت هناك رموز أخرى داخل المستقبل تنافسه على الزعامة مثل الوزير السابق أشرف ريفي الذي يناسب خطابه وتموضعه التصعيد السعودي. ليضاف إلى هذا تورط الحريري أو توريطه في الصراع على الحكم في السعودية فتمت الإطاحة به. والسؤال الحاسم هنا: أي من الاحتمالات والتفسيرات السابقة هو ما حدث؟ ما سيحدث في الأيام القليلة القادمة سيؤكد أي من الاحتمالات والتفسيرات السابقة الأقرب للصحة، فإذا عاد الحريري إلى لبنان وتراجع عن الاستقالة، فهذا يعني أنه ألتقط الخيط الذي مده خصومه هناك لينجو من الاحتجاز في السعودية شريطة أن يفوت فرصة الفراغ الحكومي. أو أن يستمر على موقفه ويغادر السعودية إلى قبرص أو غيرها، شريطة أن يبارك ويدعم تصعيد رمز أخر من التيار لزعامة "المستقبل" كخطوة تمهد وصول هذا الشخص لرئاسة الحكومة اللبنانية خلفاً للحريري، وهذا الأمر يؤكد حال حدوثه أن الحريري أما أضحى كارت محروق لدى الرياض ولم يعد كافياً لها، أو بالفعل أنه عوقب بإجباره على تقديم الاستقالة وأن بقاؤه محتجزاً في السعودية –التي يحمل جنسيتها وبالتالي يمكن محاكمته بأي تهمه- مرهون بدعمه لمرشح السعودية الجديد في تولي رئاسة الحكومة اللبنانية. وأخيراً أن يبقى الحال كما هو عليه، أي يبقى الحريري مستقيل دون عودة إلى لبنان ودون إفصاح عن حالته الحالية في السعودية، وهو ما يصعد من احتمالية أنه قيد الاحتجاز، وبالتالي إن حدث هذا فإن السعودية فوتت على نفسها فرصة استثمار الفراغ الحكومي في لبنان كبوابة لعودة نفوذها هناك، وكذلك ما يتعلق بتوظيف لبنان ككل في صراعها مع إيران، ويفتح أيضاً الباب لاحتمالية أن يكون ما حدث هو نهاية عقود من نفوذ المملكة في لبنان منذ اتفاق الطائف 1990.