عندما يتحدث المسئولون العرب عما يسمى ب"صفقة القرن"، لا نستطيع أن نفهم منهم شيئا محددا، نبدو وكأننا نبحث – كما يقول القول المأثور- عن قطة سوداء فى غرفة مظلمة، كل ما نستطيع أن نمسكه بأيدينا من كلامهم أن هناك عملية سلام كبرى ستنهى الصراع العربى – الصهيونى للأبد، وأن هناك علاقات تجارية واسعة ستنمو – أو بالأحرى ستخرج إلى العلن – بين دول خليجية كبيرة وعلى رأسها السعودية وبين إسرائيل، وأن دولة فلسطينية ستخرج للنور، وأن الحدود ستكون مفتوحة بين إسرائيل وبقية دول الجوار العربية. لكن تحت هذه العناوين المتفائلة الكبيرة، يطل علينا شيطان التفاصيل بعشرات الأسئلة المحرجة للأطراف العربية التى تبارك هذه الصفقة، منها ما يتعلق بمصير القدس الشريف وحدود الدولة الفلسطينية؟ ومدى هيمنة إسرائيل عليها بل وعلى الشرق الأوسط بأكمله؟ ومنها ما يتعلق بالتنازلات الإسرائيلية والعربية لتمرير هذه الصفقة؟ ومنها ما يتعلق برأى الشعوب العربية فيها؟ وكيفية تعامل الأنظمة العربية مع معارضى هذه الصفقة والذين يطالبون بدولة عربية على كامل التراب الفلسطينى يعيش فيها اليهود جنبا إلى جنب مع العرب بشكل ديمقراطى؟ وقبل ذلك كله ماهى بنود هذه الصفقة بالضبط؟! كل هذه التساؤلات التى تصم العواصم العربية آذانها عنها، تطرحها صحف إسرائيل على الرأى العام هناك، ويناقشها العديد من الخبراء الصهاينة بمنتهى الصراحة، فعلى سبيل المثال ذكرت صحيفة "هآرتس" أن فكرة الصفقة ليست جديدة، بل إن جذورها تعود إلى 45 عاما مضت وقد جاء الوقت لتطبيقها على ارض الواقع. وطبقا لهذه الصحف، تتضمن هذه الصفقة التى يرعاها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بنودا حول تبادل اراضى بين إسرائيل والدول العربية ، كما تقترح تأجير مصر جزءا من سيناء لغزة لإقامة لدولة فلسطينية عليها مع جزء من الضفة الغربية يربط بينهما ممر ضيق، وإعطاء مصر جزء من أراضى صحراء النقب وتعويضا بمليارات الدولارات مع إمكانية ارتباط هذه الدولة فى كونفدرالية مع الأردن، بالإضافة إلى إعطاء السعودية جزءا من أرضها على الساحل الشرقي للبحر الأحمر لمصر، مع الموافقة على مشاريع إسرائيلية بإغراء فلسطينى الضفة على مغادرتها، لتضم إسرائيل أراضيهم إليها، كما تشمل الصفقة أيضا اقتراحا بتأجير سوريا جزء من هضبة الجولان لإسرائيل، مقابل إعطائها قطعة أرض أخرى، ويتزامن ذلك كله مع اعتراف الدول العربية بإسرائيل، وإقامة علاقات دبلوماسية معها، وتنمية مجالات التعاون الاقتصادى والتجارى بينها. رغم هذه الصورة الوردية التى تقدمها اسرائيل لمستقبل المنطقة مع هذه الصفقة، إلا أن هناك العديد من النقاط التى تغافلت عنها، والتى يمكن أن تكشف الأهداف الحقيقية لهذه الصفقة المسمومة منها: ** التقدم الاقتصادي التكنولوجى والتفوق العسكرى فى الجانب النووى منه على وجه الخصوص، مع استمرار الدعم الأمريكى السياسى والاقتصادى والعسكرى، الذي سيضمن لإسرائيل قيادة الإقليم كله طبقا لمصالحها، فى ظل عدم وجود أى دلائل تشير إلى أن خلافات القادة العرب ستنتهى، وأنهم سيقفون وقفة رجل واحد فى مواجهة أى خطط إسرائيلية تضر بالدول العربية أو تضمن استمرار تفوقها النوعى عليها. **الدولة الفلسطينية المقترحة ستكون منزوعة السلاح ، وسيخضع اقتصادها للسيطرة الإسرائيلية، ولن تكون أبدا دولة ذات سيادة حقيقية، وخروجها للنور سيدفع بإسرائيل لتنفيذ مخططها الرئيسى بإقامة الدولة اليهودية النقية الخالية من العرب، وتهجير معظمهم إلى هذه الدولة الفلسطينية المشوهة. ** تزكية الروح الطائفية بين الدول العربية، من خلال إعلان أمريكا وإسرائيل أن احد أهم اهداف الصفقة هو بناء حلف سنى عربى مع الكيان الصهيونى لمواجه ما تسميانه ب "الخطر الشيعى"، وهو ما يجد هوى كبير لدى بعض قادة الاقليم وخاصة فى السعودية وإسرائيل. **إثارة أزمات حادة فى العديد من الدول العربية التى تضم مواطنين شيعة سواء فى سوريا أو لبنان أو العراق أو البحرين أو اليمن بل وحتى فى السعودية نفسها، والتى قد تتعرض لتصدع بنيتها الوطنية. صفقة القرن بالمفهوم الذى تطرحه إسرائيل هى أكبر هدية ممكن أن نقدمها للعدو الصهيوني، فهى لن تحقق السلام الشامل والعادل الذى نبحث عنه، ولن تقدم للشعوب العربية الحرية والعدالة والتنمية الحقيقية التى تناضل من أجلها، ولن تقدم لحكامنا الاستقرار الذى يتمنونه، طالما ظل هؤلاء الحكام يخفون عنا ما يجرى فى اتصالاتهم ولقاءاتهم العلنية والسرية مع القادة الصهاينة بشأن هذه الصفقة، ويرفضون إجراء أى مناقشات مجتمعية حولها، والتى هى فى الأساس حق أصيل لشعوبهم، ليحددوا من خلالها وبمنتهى الحرية رأيهم فيها، سواء بقبولها أو رفضها، أو حتى محاولة تعديلها!