لا يشي قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بإيقاف برنامج وكالة الاستخبارات المركزية، "سي آي إيه"، الخاص بتدريب المتمردين في سوريا، بأي تغير جذري في رؤية واشنطن فيما يتعلق بتسوية الملف السوري؛ فالبرنامج شهد من الكوارث منذ بدايته في عهد أوباما بما يكفي لإغلاقه، ويضاف لذلك توجه إدارة ترامب بمحو كل ما يتعلق بإرث إدارة أوباما في الداخل والخارج، وهو أمر يبقى في دوائر السياسة واتخاذ القرار في واشنطن رهن التحدي والاستجابة، أما على الأرض فمازالت واشنطن متمسكة برؤية عسكرييها، وتحديداً في الشمال السوري، حيث التوافق بين البيت الأبيض في عهد ترامب والبنتاجون على إدارة المعركة هناك على أرضية لا غالب ولا مغلوب، خاصة وأن هذا المبدأ يوفر للولايات المتحدة مستقبلاً قوة تفاوضية على موائد المفاوضات الخاصة بالحل في سوريا، مدعومة بفرض محاصصات على الأراضي السورية شمالاً وجنوباً، ومناطق تقسم تحت عناوين "خفض التصعيد" و"نزع التوتر" "فاصلة وحظر الطيران" وغيرها من المسميات التي تدور في فلك إعادة رسم الخارطة الميدانية بعد ميل كفة الميدان لصالح دمشق وحلفائها، ويمهد لمرحلة ما بعد معركة الرقة واستحقاقات ما بعد القضاء على مركز وعاصمة خلافة "داعش". قرار أمس الخاص بإيقاف برنامج "سي آي إيه" لتدريب المتمردين في سوريا يأتي في سياق داخلي وخارجي أميركي أبعد ما يكون عن التهدئة، فعلو صوت المؤسسات الأميركية الرافضة لسياسات ترامب في الداخل والخارج أضحت علنية مباشر بدون مواربة؛ حتى أن نواب حزبه، الحزب الجمهوري، صوت عدد منهم بجانب الديمقراطيين بالرفض على إعادة هيكلة برنامج الرعاية الصحية المعروف إعلامياً ب"أوباما كير"، الذي أراد ترامب استبداله هو والعديد من القوانين والإجراءات في الداخل والخارج في إطار محاولات بسط سياساته على مؤسسات واشنطن، بما في ذلك المؤسسات الأمنية والاستخباراتية وحتى الخارجية الأميركية، وذلك بالتوازي مع الاتهامات المتعلقة بشبهة علاقات غير قانونية بين ترامب والكرملين، وتأثير الأخير على مجريات الانتخابات الأميركية التي فاز بها ترامب. أيضاً اللافت إن جزء كبير من توجهات ترامب الخارجية لا يمكن فصلها عن الكباش الداخلي في واشنطن، فعلى سبيل المثال عقد الاتفاق الأخير مع روسيا بخصوص جنوبسوريا تأتي في مقدمة دوافعه إعطاء وزير خارجيته، ريكس تيلرسون، إنجاز ما يدعم اختيار ترامب ليه خصوصاً بعد الأداء الضعيف للخارجية الأميركية في شهور حكم ترامب الستة، وذلك مع تحدي بنيوي على مسار الخارجية الأميركية كمؤسسة يعاد هيكلتها ببنية جديدة للخارجية بميزانية وتوجه جديد في العمل الدبلوماسي بمبدأ رجال الأعمال – شغل تيلرسون منصب رئيس شركة شيلّ للبترول- وهو المبدأ الذي سارت عليه إدارة ترامب منذ دخوله البيت الأبيض، وأبرز تطبيقات هذا المبدأ في المنطقة هو تسكين -وليس تسوية- الخلافات الأميركية-السعودية التي برزت أواخر عهد أوباما مقابل 480 مليار دولار تدفعهم الرياض على مدار السنوات القادمة، وهو ما تبعه حالة من "لامركزية الأعمال" التي أدت لمواءمة ترامب لإرادة أبوظبيوالرياض والقاهرة فيما يخص الدوحة، ولكنه سرعان ما تراجع عنه لعوامل كثيرة أبرزها شطط الحلفاء في مطالبهم وكذا اعتراض المؤسسات الأميركية على المضي قدماً بالموافقة على سياسات الثلاث حلفاء الإقليمية، وتجاوزهم المطالبة بنقل قاعدة العُديد للبحرين وتهديدهم بإقامة قاعدة "عربية مشتركة" في المنامة إذا لم توافق واشنطن على نقل قاعدتها، ولكن بحجة القاعدة التركية لا الأميركية في قطر. وهو الأمر الذي كان حال المضي قدماً فيه سيؤدي لتقليص فرص واشنطن في الخليج كقوة منفردة إلى قوة تتصارع في ساحة إقليمية خارجة عن التحكم الأميركي، عشية تصعيد بين واشنطنوموسكووأنقرة في سوريا قبيل توقيع الاتفاق الأخير، الذي يبدو ظاهرياً أن قرار ترامب الخاص بإيقاف برنامج تدريب المتمردين لاحق له، ويبدو أنه يتماشى أيضاً مع توجه الإدارة الجديدة الاستغناء عن فكرة إسقاط النظام السوري في مرحلة ما بعد داعش. الأخطر من هذا على مستوى خارجي أيضاً مرتبط بتعاطي ترامب وإدارته مع الأزمة السورية ومؤخراً الأزمة الخليجية، أن السير قدماً في إيلاء حلفاء واشنطن لامركزية في اتخاذ القرارات المتعلقة بالصراعات الإقليمية سيؤدي إلى إلحاق الضرر بالمصالح الأميركية الاستراتيجية ليس في الشرق الأوسط فحسب، ولكن على مقياس عالمي، فعلى سبيل المثال كانت القاعدة التركية في قطر، التي تنظر إليها واشنطن على أنها قاعدة لدولة عضو في الناتو وحليفة، ستتحول بالتوازي مع أزمات أنقرة مع الناتو-والذي عولت الدول الثلاث على خروج تركيا من الحلف وامتداد ذلك لصدام بينها وبين واشنطن- إلى مسألة خلافية تكاد تصل لحد التهديد. وهو حال حدوثه يرشح التقارب التركي-الإيراني الحادث مؤخراً على خلفية الأزمة القطرية إلى حد التحالف، وهو ما يعني أن منافسة أميركا على نفوذها على ممالك وإمارات الخليج لن تكون مقتصرة على إيران فحسب بحكم الموقع الجغرافي، ولكن أيضاً ستنضم لها تركيا، وهو ما يخلق فرصة ندية تحدي الوجود الأميركي في الخليج وليس فقط مقاومة تفردها به. السابق على الرغم حصره في سوريا ميدانياً وفي الخليج سياسياً، إلا أنه لا يمكن فصله عن سياسات واشنطن تجاه الشرق الأوسط وسياساتها الخارجية بشكل عام، والتي اتسمت حتى قبل دخول ترامب البيت الأبيض فيما يخص سوريا تحديداً بالارتجال والعشوائية لحد التخبط؛ فمسألة تدريب المتمردين لوحدها شهدت تسليم وبيع السلاح الأميركي للقاعدة وداعش، وهو ما ينسحب على درامية المشهد السوري إلى حد تصادم كل من المجموعات المسلحة التي تدربها الاستخبارات الأميركية بنظيرتها التي يتم تدريبها من جانب البنتاجون، وهو ما لم تفلح واشنطن في احتواءه ولا تنظيمه إلا بإنهاء أحد تدريب ودعم أحد الطرفين. هذا الفشل الذريع يعد منطقي بالنظر إليه في سياق سلسلة الإخفاقات الأميركية فيما يخص الأزمة السورية، على المستوى الاستراتيجي والتكتيكي، العسكري والسياسي، وهو لم ينتج عنه فقط انفلات الحلفاء وبحثهم عن حلول تحقق مصلحتهم المباشرة بعيداً عن الرؤية الأميركية وتتعارض معها في الظاهر-مثل جيش الفتح- ولكن أيضاً خلقت هذه الإخفاقات الأميركية فرصة مثالية لأن تتلقفها موسكو وتبني عليها تحركات سريعة وفعالة أفقدت واشنطن وحلفائها المبادرة والمبادأة في سوريا. وانتقالها إلى روسيا وحلفائها، حيث بلورة سريعة لتحرك روسي عسكري وسياسي في سوريا، وأيضا بلورة آلية أمنية واستخباراتية وعسكرية مشتركة تضم موسكو وبغداد وطهران ودمشق، أوصلت الأمور في عهد ترامب إلى حدود الحرب بعد غارة الشعيرات والتصعيد الذي جرى عشية توقيع الاتفاق الأخير بين واشنطنوموسكو، وذلك فقط لضمان أن يكون للولايات المتحدة في عهد ترامب بعضاً من أوراق القوة فيما يخص مستقبل سوريا بعد مرحلة داعش واستعادة جزء من مبادرة فقدتها طيلة السنوات الماضية.