الجاحظ أحد أهم علماء عصره في الأدب العربي، عاصر ابن المقَفع والخليل بن أحمد وبشار بن برد وأبا نواس وأبا تمام والبُحْتري، ودرس على يد الأصمعي، وغيره من رواد ذلك الزمان، الذين ساهموا في تشكيل حضارة رائدة بالكوفة والبصرةوبغداد وقرطبة. ولد أبو عثمان عمرو بن بحر، المعروف بالجاحظ عام 150ه بمدينة البصرة، التي كانت منارة للعلم آنذاك، ولما مات أبوه في طفولته، أصبحت حياته صعبة، فلم يجد ما ينفق به على نفسه، لكن البيئة العلمية في البصرة طغت عليه، وعندما اشتد عوده، بدأ يبيع الخبز والسمك في الأسواق بجانب طلب العلم، فأكثر من الذهاب إلى المساجد وسماع العلماء ومجادلتهم، وتردد على سوق المربد، حيث الشعراء والخطباء، فشغله العلم عن الحياة حتى ضاقت به أمه. ويروي الدكتور الطاهر مكي في كتابه «دراسة في مصادر الأدب» موقفًا طريفًا بين الجاحظ وأمه، عندما جاءها يومًا يطلب طعامًا فقدمت له طبقًا فيه كراريس ورق، وقالت: كُلْ، سخرية من اشتغاله بالكتب والقراءة، وانصرافه عن الكسب، فخرج إلى المسجد غاضبًا، ورآه يونس بن عمران فأدرك حاله وسأله عن شأنه، فلما وقف على أمره أعطاه خمسين دينارًا، فأخذها الجاحظ ومضى إلى السوق، فاشترى دقيقًا وطعامًا، وعاد إلى داره مزهوًّا والحمالون من ورائه، فلما رأته أمه دهشت، وسألته: من أين لك هذا؟ فرد عليها متشفيًا: من الورق الذي قدمته لي في الطبق. وكان الجاحظ غزيرًا في التأليف كبقية علماء عصره، لاطلاعه الواسع، وعرف عنه أنه لم يقع في يده كتاب قط إلَّا قرأه، حتى إنه كان يستأجر دكاكين الوراقين ويبيت فيها ليقرأ، وربما ساهم في غزارة مؤلفاته أيضًا، كثرة ترحاله من بلد إلى آخر؛ كالبصرةوبغداد ودمشق وأنطاكية، فكان تنوع البيئة باعثًا على عمق تجربته وخبرته بالناس، وهو ما نراه واضحا في مؤلفاته، وعندما ذهب إلى بغداد في عصر المأمون ذاع صيته وعرفت مؤلفاته وولي ديوان الرسائل، غير أنه تركه ليكون متفرغًا للعلم والتأليف. مؤلفاته تكلم الجاحظ في كتابه «الحيوان» عن منهجه في التأليف، قائلًا: إنِّي أوشِّح هذا الكتابَ وأفصِّلُ أبوابَه، بنوادِرَ من ضُروبِ الشِّعر، وضروبِ الأحاديث، ليخرجَ قارئُ هذا الكتاب من باب إلى باب، ومن شكل إلى شكل؛ فإنِّي رأيتُ الأسماعَ تملُّ الأصواتَ المطْرِبَة والأغانيَّ الحسنة والأوتارَ الفَصيحة، إذا طال ذلك عليها، وما ذلك إلاَّ في طريق الرَّاحة، التي إذا طالت أورثت الغفلة.."، فكان تميز الجاحظ في أسلوبه ومنهجه لأن خبرته بالناس أدركته مداخلهم وكيف أنهم يملون جهد العلم، فلا صبر لهم عليه إلا بشيء من الفكاهة والطرفة، ولعل طريقة سرده للأحداث تشبه كثيرا طريقة السرد التي جاء عليها كتاب كليلة ودمنة، فتراه يبدأ الكلام في قضية بعينها ثم يدخل من خلالها إلى قضية أخرى، ثم يعود إلى ما أسلف مرة أخرى، وعلى أية حال، فإن ظهر كلام الجاحظ صعبا لغير المتخصصين، سيخرج باستفادة عظيمة ومتعة لا عوض عنها عند أديب آخر. أما عن مؤلفاته، فكتب الكثير، وما فقد منها أكثر مما وصلنا، ومن أشهرها "البيان والتبيين، والبُخَلاء، والتَّاج في أخلاق الملوك، والحيوان، والمحاسِن والأضداد، والبُرْصان والعُرْجان والعُميان والحُولان". وفاته أصيب الجاحظ في آخر حياته ب"فالج" شلل نصفي، فعاد إلى البصرة وقد اشتد عليه المرض، ويصور المبرد محنة الحاجظ قائلا: "دخلتُ على الجاحظ في آخر أيامه، فقلت له: كيف أنت؟ فقال: كيف يكون من نصفه مَفْلوجٌ لو حُزَّ بالمناشير ما شَعَرَ به، ونصفه الآخر مُنْقَرِسٌ لو طار الذباب بقربه لآلمه، وأشد من ذلك سِتٌّ وتِسعون سنة أنا فيها.."، وروي أيضا عن الجاحظ أنه قال: "اصْطَلَحَتِ الأضداد على جسدي، إن أكلت باردًا أَخَذَ برِجْلي، وإن أكَلْتُ حارًا أَخَذَ برأسي..". وقال الدكتور الطاهر مكي في كتابه "دراسة في مصادر الأدب": "ومن عجب أن الجاحظ لم يمت ضحيةَ هذه الأمراض التي اجتمعت عليه، وإنما راح شهيدَ الكُتُب، إذ كان من عادته أن يضعها كالحائط محيطة به، وهو جالس بينها يقرأ، فانهالت عليه وقَتَلَتْهُ ولَحَدَتْه مَيْتًا بعد أن كانت شاغلَ حياته، وسَلْوَةَ عقله.."، وعندما رحل الجاحظ عام 255ه حزن عليه الجميع حتى الخليفة المعتز بكر، وكذلك أبو العَيْنَاء فتعجب الناس من بكائه فسأله أحدهم: ليت شعري أي شيء كان يُحْسن الجاحظ؟ فقال: ليت شعري، وأي شيء كان الجاحظ لا يحسن؟!