الجاحظ احد أبرع من كتب الأدب الساخر، واستخدم الطرفة والفكاهة فى توصيل إنتاجه إلى الناس، ولد بمدينة البصرة ونشأ فقيرا، وكان دميما قبيحا جاحظ العينين، لذا فقد لقب بالجاحظ، لم يعجبه هذا الاسم فكان يحاول بشتى الطرق أن يجعل الناس تناديه باسمه الحقيقى عمرو، وعرف عنه خفة الروح وميله إلى الهزل والفكاهة، كثير السخرية حتى من نفسه ، ومن ثم كانت كتاباته على اختلاف مواضيعها لا تخلو من الهزل والتهكم. يقول ممدوح الشيخ الباحث فى علوم اللغة والأدب، طلب الجاحظ العلم في سن مبكرة، فقرأ القرآن ومبادئ اللغة على شيوخ بلده، ولكن اليتم والفقر حال دون طلبه للعلم، ولكنها كانت حافزا لتجعل قصة كفاحه مضربا للأمثال، فصار يبيع السمك والخبز في النهار، ويبيت بدكاكين الوراقين في الليل فكان يقرأ منها ما يستطيع قراءته. وأضاف الشيخ: "عاصر الجاحظ خلال حياته 12 خليفة عباسيًا هم المهدي والهادي والرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي بالله، وبذلك فقد عاش القرن الذي كانت فيه الثقافة العربية في ذروة ازدهارها. أخذ علم اللغة العربية وآدابها على أبى عبيده مؤلف كتاب نقائض جرير والفرزدق، والأصمعى الراوية المشهور وصاحب الأصمعيات وأبى زيد الانصارى، ودرس النحو على يد الأخفش، وعلم الكلام على يد إبراهيم بن سيار بن هانئ البصرى. كما كان متصلا بالثقافات غير العربية كالفارسية واليونانية والهندية، عن طريق قراءة أعمال مترجمة أو مناقشة المترجمين أنفسهم، كحنين بن إسحق وسلمويه، وربما كان يُجيد اللغة الفارسية لأنه دوّن في كتابه المحاسن والأضداد بعض النصوص باللغة الفارسية هذا بالإضافة إلى ثقافته العربية الثرية. ويضيف الدكتور مدحت الجيار رئيس قسم اللغة العربية بجامعة الزقازيق ، تتلمذ على يد الكثير من العلماء ، وكبريات المصادر الأدبية مثل أبوعبيدة بن معمر التميمى صاحب كتاب عيون الأخبار، والأصمعى، وفى ميدان علوم الفقه والحديث تتلمذ على يد أبى يوسف بن يعقوب القاضى ، وابن يزيد ، وقرأ كتب أرسطو وأفلاطون التى تناولها ورد عليها بشكل ساخر. وتابع:"تلقى الجاحظ أيضا علمه على يد واصل بن عطاء ، فاعتنق فترة كبيرة مذهبه"المعتزلى "، حتى أصبح الجاحظ واحدًا من كبارالمعتزلة يتناول أفكارهم، ويدافع عنهم، حتى اهتم الناس فى ذلك الوقت بكتب الجاحظ الأدبية، وتجاهلوا الكتب الدينية. وكتب حوالى أكثر من 360 كتابًا فى كل فروع العلم فى عصره، أبرزها مؤلفات الجاحظ البيان والتبيين في أربعة أجزاء، كتاب الحيوان الذى ألفه في ثمانية أجزاء، ولا ننسى كتابه الشهير البخلاء، وكتاب المحاسن والأضداد، التاج فى أخلاق الملوك، الأمل والمأمول، التبصرة فى التجارة، البغال، فضل السودان على البيضان، كما أن له العديد من الرسائل التى طبعت فى ديوان سمى" برسائل الجاحظ. ويقول الدكتور عبداللطيف العبد -أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة- كان الجاحظ من شدة نهمه وحبه للقراءة يستأجر دكاكين الوراقين ليبيت فيها، واستطاع من خلال ذلك ان يطلع على كتب ومؤلفات العلماء والادباء ، لكن أمه ضاقت من انهماكه فى القراءة والكتابة؛ لأنها اعتادت أن يذهب معها في كل صباح، ليبيع معها السمك والسكر والحلوى . ثم يسرع مع العصر إلى مسجد البصرة، ويجلس في حلقة من حلقات العلم ، يستمع إلى شيخ من شيوخ اللغة، ويكتب ما يسمعه، ثم يعود إلى البيت راضيا فتضمه أمه إليها ، وتغني له حتى ينام، لكن الجاحظ لم يعد يذهب معها إلى السوق مثلما كان ، ففي المسجد التقى عمرو ذات يوم بثري من البصرة اسمه "موسى أبو عمران". وقد رآه يسأل العلماء ويجيب العلماء فأعجب بذكائه في السؤال، وسرعته في الجواب، وجذبته إليه خفة روحه، وقوة حجته، فقال له حين انفرد به ليت مثلك كان ولدي يا بني، اطلب العلم ما عشت، فقد تصير يوما عالما قديرا، أو كاتبا نابغا. وفرح الجاحظ بما قاله له أبو عمران، وصحبه إلى بيته، وأطعمه وأعطاه كتبا من كتبه ومنذ ذلك اليوم، شغل الجاحظ بالكتب عن الذهاب مع أمه إلى السوق، وصار يسحب كتابًا منها، ويذهب ليقرأه، ثم يعود مع العصر إلى المسجد ليجلس بين طلاب العلم، ولذلك حزنت أمه فقد أخذت الكتب منها ولدها بعيداً عن السوق، وقررت أمه أن تعطيه درسا لا ينساه. وذات يوم عاد الجاحظ من المسجد وقد اشتد جوعه وطلب من أمه طعاما فلم يأكل في نهاره شيئا، فنهضت الأم، وعادت إليه بطبق كبير وعليه كتب وكراريس، ودهش الجاحظ وقال لأمه: ما هذا؛ أريد طعاما لا كتبًا. فقالت له أمه بهدوء، وهي تجلس كل كتبا فهذه الكتب هي التي نكسبها منك. فقام الجاحظ وغادر البيت حزينا وذهب إلى المسجد ، فوجد الشيوخ والطلاب قد غادروه ، فجلس في المسجد حزينا، شاحب الوجه من الجوع، وانتبه على صوت بجانبه، يقول له خيراً يا عمرو. والتفت فرأى صديقه أبو عمران وأخبره بما فعلته أمه معه، فصحبه معه إلى بيته وقدم له طعاما فأكله وشبع وقدم له كيسا مليئا بالدنانير، قائلاً له أشبع أمك بهذا المال، خمسون دينارا يا عمرو، ولك مثلها مني أول كل شهر. وفرح الجاحظ وكانت الشمس قد أشرقت فسارع فرحًاً إلى السوق واشترى دقيقا ، وزيتا، وتمرا، ولحما، وعاد نحو البيت يتبعه الحمالون، كانت الأم جالسة تنتظر عودته في قلق، وكانت تلوم نفسها طوال الليل لقسوتها على ولدها. ودفع باب البيت ورأت الأم الحمالين يدخلون وينزلون من على ظهورهم ما يحملونه، فصاحت في دهشة من أين لك هذا يا عمرو؟!، وشعر الجاحظ أنه قد صار فجأة رجلا، فقال لها ضاحكاً من الكتب التي قدمتها لي في طبق!. وفاته: أصيب الجاحظ بمرض الشلل النصفي في آخر عمره ولازم غرفة نومه في مزرعته في البصرة، وقد جاءت الطريقة التي ودع بها الدنيا مفاجئة لأهل البصرة، فقد كان الجاحظ وحيدًا في غرفته حين زحف إلى قاعة من قاعات كتبه في قصره الفسيح. وتحامل على نفسه جالسا وقام متكئا على الجدار ليصل إلى رف من رفوف كتبه فانهارت فوقه الرفوف والكتب فلفظ أنفاسه بينها،سنة 205 / 869م. وظل اسم الجاحظ وأدبه علما حيا، وظلت مؤلفاته الباقية تطبع إلى يومنا هذا ولا يزال العلماء الميسرون للعلم يحتذون أسلوبه العلمي المتأدب الذي تتساوى فيه ألفاظه ومعانيه.