قلما عرف الأدب العربي في مختلف عصوره كما عرف رجلاً موسوعياً بلغ ما بلغه الجاحظ من غزارة في المادة ودقة في التحليل، لقد تنوع الجاحظ في مجالات الإبداع ولاسيما الأدبية، لقد كان أبو عثمان عبد الحق، رائداً فريداً وهذا ما يفسر إقبال الكثير من المستشرقين علي دراسة آثاره ونقدها وترجمتها وطبعها طبعات علمية، كان معظم النتاج الأدبي قبل الجاحظ لا موضوع له، يدور في حلقات منمقة الحواشي من ألفاظ أنيقة، علي غير مضمون، فإذا بصاحبنا يشق طريقاً جديدة ساعده فيها ابن المقفع فيجعل من الأدب مرآة المجتمع والحياة، فإذا فكر في شأن من شؤون الوجود يصلح مادة لقلمه. اسمه ولقبه وصفاته ونشأته: هو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب ، ولقب" بالجاحظ" أو" الحدقي " لجحوظ عينيه ، أي نتوءهما . وكان هذا اللقب لا يعجبه ، علي ما يظهر فيتبرم بمن يدعوه به ، ويجهد نفسه لكي يقرر في أذهان الناس اسمه "عمرو" وأنه يحب أن يدعي بهذا الاسم ، وأن اسم "عمرو" ارشق الأسماء وأخفها وأظرفها وأسهلها، كان قصير القامة، دميم الوجه ، يضرب المثل به لكنه كان خفيف الروح ، حسن العشرة ، ظريف النكات ، يتهافت الناس إلي الاستمتاع بنوادره، ولد في البصرة حوالي سنة 160ه (776)م ومات فيها سنة 355 - (869)م وقد اختلفت آراء المؤرخين حول تاريخ ولادته وموته. وتضاربت الآراء كذلك بشأن أصله فمنها ما يفيد ومنها ما يؤكد أنه مولي إلي القلمي عمرو بن قلع الكتاني وان جده أسود يقال له فزارة كان جمالاً. فقد تميز الجاحظ منذ حداثته سنه ، بقدر ما تدلنا الطبقة الاجتماعية الفقيرة التي نشأ فيها بأنه عصامي كان يعمل ويتعلم في آن، ويذكر بعضهم أنه كان يبيع الخبز والسمك بجوار نهر سيحان في البصرة. ثقافته: لقد دارت شخصية الجاحظ في نطاق كبير من الذكاء والموهبة والثقافة واتساع المعرفة، ومن العقلية الناضجة، والذهنية المتفتحة، والنضوج الفكري الخلاق كانت تدور شخصية الجاحظ المعلم العربي الأول ورائد الفكر العربي في الثقافة الإنسانية، كان الجاحظ رائداً للفكر العربي الإسلامي في عصره وكان مجده يعصف بكل مجد ويدوي في كل أفق ويرن صداه في سمع الأجيال أمام الكتاب وشيخ البيان وعلماً من أعلام الأدب والنقد ومفكراً من مفكري المعتزلة عاش الناس في عصره وبعد عصره عيالا عليه في الفصاحة والبلاغة. أهم مؤلفاته: (1)- البخلاء: وهو يعد تحفة من آثار الجاحظ العقلية والأدبية فكل قطعة فنية رائعة من أدب الجدل والحجاج والحوار والمناقشة والنقد، يعرض الفكرة في الدفاع عن البخل ثم يناقشها عقليا ويؤيدها منطقيا ويلتمس لتأييدها كل الشواهد والمثل من حياة الناس بمختلف طبقاتهم وبيئاتهم ومستوياتهم، وفي صدر البخلاء ما يدل علي أن الجاحظ أهداه لعظيم من عظماء الدولة لم يذكر لنا اسمه وقد يكون ابن الزيات . (2) - البيان والتبيين : لقد ألفه بعد " الحيوان " وأهداه إلي ابن أبي داود فكافأه عليه بخمسة آلاف دينار ويصفه الجاحظ بأنه قد جمع استقصاء المعاني ، واستيفاء جميع الحقوق مع اللفظ الجزل والمخرج السهل ، فهو سوقي ملوكي وعامي خاص، وكان لظهوره ضجة في شتي الأوساط والبيعات وعند مختلف العلماء والأدباء . (3) - كتاب الحيوان : من أشهر وأروع مؤلفات الجاحظ ومن آثار التجربة والسن وهو حافل بضروب الآراء وألوان الثقافات والمعارف، وكان البصريون يفتخرون به وكتاب البيان . (4)- رسالة التربيع والتدوير : وهي طرفة من طرائف الجاحظ كتبها في أحد الوراقين من غلاة الشيعة ومن خصوم المعتزلة عامة والجاحظ خاصة . شيخوخته ووفاته: لقد قضي في فراشه السنين الطوال يغالب الداء متيائساً حتي اضطر آخر الأمر إلي الانقطاع عن القلم والكتاب . وزاره المبرد ، وهو علي ذلك البؤس ، فسأله كيف حاله فقال " كيف يكون من نصفه مفلوج لو حز بالمناشير لما شعر به ونصفه الآخر منقرس لو طار الذباب بقربه لألمه وأشد من ذلك ست وتسعون سنة عاني فيها، وكان يطلي نصفه الأيمن بالصندل والكافور لشدة حرارته، بينما كان النصف الأيسر شديد البرد، لقد اصطلحت الأضرار علي جسده، علي غير رحمة، فكان إن أكل باردا أخذ برجله، وإن أكل حارا أخذ برأسه ومازال به الداء عنيفا لا يهاود حتي قضي عليه إنطفاء سنة 335 ه (868- 869م) علي حد تأكيد معظم المؤرخين وهكذا انطوت حياة الجاحظ بين مد مرهق وجزر مشرق.