مه عمرو بن بحر بن محجوب الكناني ولبروز عينيه لم يجدوا له لقبا سوى "الجاحظ"، اللقب الذي التصق بشخصه حتى يومنا هذا، ولد في البصرة في العراق عام 159ه، ورحل لجوار ربه في العام 255 ه، كما تتلمذ على يد أساتذة الدولة العباسية، ومن أسباب شهرة الجاحظ اتساع علمه، وتبحره في الأدب، إذ إنألف العديد من الكتب التي تجاوزت 170 مؤلفا بحسب إحصاء ابن النديم لآثار الجاحظ ومن أشهرها: كتاب البخلاء، وكتاب الحيوان، وكتاب البيان والتبيين، ورسالة التربيع والتدوير، وكذا احتوت معظم هذه المؤلفات على موضوعات ساخرة، فسخر من العادات والتقاليد التي تفشت في عصره بصورة كبيرة، لذلك اعتبر الجاحظ أول كاتب ساخر في تاريخ الأدب العربي حيث أخص كتبًا كاملة في السخرية تحليلًا ودراسة لمجتمعه كما فعل في كتابه البخلاء، ورسالته التربيع والتدوير، فالسخرية قبل عصر الجاحظ كانت تأتي عفوية تارة، أو مقصودة لغرض من الأغراض السياسية تارة أخرى دون أن تقوم بالتحليل والتصوير والتشخيص لإبراز خصائص المجتمع. إن سخرية الجاحظ متصلة بطبيعته المرحة، وبموقفه من الحياة وهو موقف التوجيه والنقد، فلم تقم سخريته على عاطفة شخصية أو على الهجاء والشتم، فقد عاش في مجتمعه بعين الخبير الناقد فكان يعالج المشكلات بالضحك والسخرية خاصة في مواجهة خصومه، فسخر من كل تصرف أو قول غريب يخالف قواعد مجتمعه طمعًا في رد صاحبه إلى نصابه، أو رغبة في التسلية والمرح. سخر الجاحظ في مؤلفاته من كل شيء ولعل من أبرزها سخريته من العيوب الجسمية والمظهرية وقد ملأت هذه الأنماط عصر الجاحظ فكتب عنها ذات مرة ساخرا من نفسه: "إنه وصف للخليفة المتوكل، أحد أولاده، فلما رأى الخليفة صورته استبشعها، فصرفه". وتناول في موضوعاته كمادة للسخرية غرابة الطباع والأخلاق فجاء الجاحظ بنقده وسخره ليبرزها محاولة لإصلاحها، وكان من أشهر تلك الطباع التي تهكم بها البخل،حيث كثر البخلاء في عصره لذلك أفرد الجاحظ للبخيل كتابًا خاصًا، وصفات أخرى كالنفاق والجحود ونكران الجميل والبلادة والإهمال والقصور العقلي. ومن أبرز نوادر الجاحظ عن البخلاء: يحكى أن أحدهم نزل ضيفًا على صديق له من البخلاء وما إن وصل الضيف... حتى نادي البخيل ابنه، وقال له: يا ولد عندنا ضيف عزيز على قلبي فاذهب واشتر لنا نصف كيلو لحم من أحسن لحم، ذهب الولد وبعد مدة عاد ولم يشتر شيئًا.. فسأله أبوه: أين اللحم!!.. فقال الولد: ذهبت إلى الجزار وقلت له: أعطنا أحسن ما عندك من لحم.. فقال الجزار: سأعطيك لحمًا كأنه الزبد.. قلت لنفسي إذا كان كذلك فلماذا لا أشتري الزبد بدل اللحم؟.. فذهبت إلى البقال وقلت له: أعطنا أحسن ما عندك من الزبد..فقال البائع ساعطيك زبدا كأنه دبس.. فقلت: إذا كان الأمر كذلك فالأفضل أن أشتري الدبس.. فذهبت إلى بائع الدبس.. وقلت: أعطنا أحسن ما عندك من الدبس.. فقال الرجل: سأعطيك دبسًا كأنه الماء الصافي.. فقلت لنفسي: إذا كان الأمر كذلك.. فعندنا ماء صافٍ في البيت، وهكذا عدت دون أن أشتري شيئًا، قال الأب: يا لك من صبي شاطر.. لكن فاتك شيء لقد استهلكت حذاءك بالجري من دكانٍ إلى دكان.. فأجاب الابن لا يا أبي أنا لبست حذاء الضيف. كما روي أن رجلا بخيلا ذهب إلى أحد الأطباء ليكشف عن علته ويصف له الدواء، وكان الطبيب يتقاضى على الكشف للمرة الأولى ثلاثة جنيهات، وفي المرة الثانية جنيهين وفي المرة الثالثة جنيها واحدا، فقال الرجل البخيل للطبيب: لقد سبق أن عرضت نفسي عليك مرتين قبل الآن، وهذه المرة الثالثة، فأرجو أن تبحث حالتي الآن وتصف لي العلاج المناسب، وهاك جنيها أجرة الكشف، وفطن الطبيب لهذه الحيلة، فأجرى الكشف على الرجل، ثم كتب له الوصفة الآتية: يعاد استعمال الدواء السابق مرة ثالثة. قال بخيل لصديقه إني أفطر وأتغدى بكسرة خبز وافترض أنني أفطرت بطبق من الفطير وتغديت بدجاجة مخمرة؟ صديقه: وبأي شيء تتعشى؟ البخيل: عجبا لك! أيشتهي العشاء من يفطر بطبق من الفطير ويتغذى بدجاجة محمرة ؟ اجتمع ثلاثة من البخلاء وقرروا التبرع بجزء من مالهم بعدما كثر كلام الناس عليهم، قال البخيل الأول: سأرسم دائرة على الأرض،وأرمي المال في السماء فالمال الذي يسقط بداخلها لي، والمال الذي يسقط خارجها للفقراء.. قال الثاني:أما أنا فسأرسم خطًا على الأرض، وأرمي المال في السماء، فالمال الذي على يمين الخط لي،والمال الذي على شمال الخط للفقراء.. فقال الثالث ( وكان أشدهم بخلًا ): أما أنا فسأرمي المال في السماء، فالمال الذي يسقط على الأرض لي، والمال الذي يبقى في السماء فللفقراء. جلس أحد البخلاء مع زوجته يأكلان الغداء في قدر.. فقال: ما أطيب الغداء لولا الزحام!!.. فقالت الزوجة:أي زحام ولا يوجد إلا أنا وأنت؟.. فرد الزوج البخيل:كنت أتمنى لو كنت أنا والقدر فقط. دخل أحد البخلاء دكانا لبيع الأدوات المنزلية، وطلب شراء مصيدة للفئران عرض عليه صاحب الدكان واحدة، وبدأ يشرح له طريقة استعمالها فقال: هنا تضع قطعة الجبن فيدخل الفأر المصيدة ليأكلها،وما إن يقضم جزءًا منها حتى تنطبق عليه المصيدة فقال البخيل على الفور: أريد مصيدة يموت فيها الفأر قبل أن يأكل الجبن !! اشترى رجل بخيل ثلاث برتقالات قطع الأولى فوجدها متعفنة فرماها، قطع الثانية فوجدها متعفنة فرماها، فأطفأ النور وقطع الثالثة وأكلها !! خرج بخيل وابنه في المساء لقضاء السهرة عند أحد الأصدقاء، وفي منتصف الطريق عرف الرجل أن ابنه ترك المصباح مضيئا ولم يطفئه عند مغادرة المنزل فقال له: لقد خسرنا بإهمالك هذا درهما.. وأمره بالعودة إلى المنزل ليطفئ المصباح، ثم رجع إلى أبيه، فابتدره أبوه قائلا: إن خسارتنا هذه المرة أكبر من خسارتنا في المرة السابقة، فقد أبليت من حذائك ما يساوي درهمين، فأجاب الولد قائلا: اطمئن يا أبي فقد ذهبت إلى المنزل وعدت حافيا. عشق أحد البخلاء امرأة.. فكان يتبعها أينما سارت ويبكي بين يديها حتى رقت لحاله.. وكانت كريمة.. فطلب منها يوما أن تهديه هريسة.. وبعدها بعدة أيام طلب منها أن تهديه رأس شاة.. وبعد عدة أيام طلب منها تمرا.. فقالت له: رأيت عشق الناس - كل الناس - في القلب.. إلا عشقك أنت: يسكن المعدة لا يفارقها !! أراد بخيل أن يخطب امرأة.. فراح يسأل الناس عن مالها، وهم يحصونه له.. فلما انتهوا قال له أحدهم قد أجبناك عن مال المرأة فما تملك أنت ؟ فقال لهم: وما سؤالكم عن مالي ؟ ما عندها يكفيها.. ويكفيني!! سأل سائل خالد بن صفوان وكان أحد البخلاء وهو بين أصحابه، فلم يستطع أن يرده خائبا حتى لا يتهمونه بالبخل.. وأعطاه درهما.. فاستقله السائل لأنه مجرد درهم.. فقال له خالد: "يا أحمق إن الدرهم عشر العشرة.. والعشرة عشر المائة.. والمائة عشر الألف.. وإن الألف عشر العشرة آلاف.. أما ترى كيف ارتفع الدرهم إلى دية مسلم ؟" وقال أيضا عنه جاء غلام إلى خالد بن صفوان بطبق خوخ فلما وضعه بين يديه قال: لولا أني أعلم أنك أكلت منه لأطعمتك واحدة. يلاحظ أن تيار السخرية يسري في كل كتابات الجاحظ التي تتناول شتى الموضوعات،فهو انتقد كل شيء في مجتمعه حتى أنه سخر من نفسه فقال ما أخجلني أحد إلا امرأتان، رأيت إحداهما في العسكر، وكانت طويلة القامة، وكنت على طعام، فأردت أن أمازحها. فقلت لها: انزلي كُلي معنا. فقالت: اصعد أنت حتى ترى الدنيا! والأخرى عندما كان الجاحظ واقفًا أمام بيته، فمرت قربة امرأة حسناء فابتسمت له، وقالت: لي إليك حاجة، فقال الجاحظ: وما حاجتك ؟.. قالت: أريدك أن تذهب معي.. قال: إلى أين ؟.. قالت: أتبعني دون سؤال، فتبعها الجاحظ إلى أن وصلا إلى دكان صائغ وهناك قالت المرأة للصائغ: مثل ها ! ثم انصرفت،عندئذ سأل الجاحظ الصائغ عن معنى ما قالته المرأة، فقال له لا مؤاخذة يا سيدي ! لقد أتتني المرأة بخاتم، وطلبت مني أن أنقش عليه صورة شيطان، فقلت لها: ما رأيت شيطانا في حياتي، فأتت بك إلى هنا لظنها انك تشبهه. ومن طرائف الجاحظ كذلك ما حكي عنه أنه كان في أحد الأيام متوجها إلى اليمن، ودخل أسواقها وتجول في الكثير من أحيائها، ولكنه وجد الناس ينفرون منه لبشاعة شكله، ولم يستضفه أحد، فقرر العودة إلى البصرة، وفي الطريق قابل أحد رفاقه، فسأله: كيف حال اليمن وأهلها؟.. فأجاب الجاحظ ببيتين من الشعر عبرا عن شعوره أصدق تعبير: منذ أن أتيت اليمنا لم أر وجها حسنا........................قبح الله بلدة أجمل من فيها أنا. كما قال جاءني يومًا بعض الثقلاء فقال: سمعت أن لك ألف جواب مسكت، فعلمني منها؟ فقلت: نعم. فقال: إذا قال لي شخص، يا جاهل يا ثقيل الروح، أي شيء أقول له؟.. فقلت: قل له: صدقت.