لسنوات مضت تتنافس العديد من الأطراف الإقليمية والعالمية على حيازة النفوذ والسيطرة في البحر الأحمر ومحيطه، تكتسب المنطقة أهمية استراتيجية عظمى معروفة تتزايد ببقاء اعتماد الغرب على النفط كمصدر رئيسي للطاقة وبقاء مشيخات الخليج (قواعد الغرب الوظيفية) عليه كمصدر وحيد للثروة، رغم الاتجاه الآخذ لديها في الآونة الأخيرة لتغيير هذا الواقع وتنويع مصادر دخلها، يعبر مضيق باب المندب (المدخل الجنوبي للبحر الأحمر) حوالي 4 ملايين برميل نفط في اليوم، وفي شمال البحر يعبر قناة السويس حوالي 3.5 مليون برميل، وإجمالي الكمية يأتي إليهما من مضيق هرمز الذي يمر منه 30 % من نفط العالم بعدد بلغ 17 مليون برميل في اليوم منها حوالي 6 ملايين من المملكة السعودية وحدها. بصفته فاصلاً بين قارتي آسيا وإفريقيا من ناحية أفقية وبين المحيط الهندي وبحر العرب والبحر المتوسط (إحدى البوابات الحضارية لأوروبا) من ناحية رأسية، طالما عُد البحر الأحمر منطقة فائقة الأهمية ومحلاًّ لصراعات القوى المختلفة في سياق سعيها للثروات وتأمين طرق التجارة والوصول للأسواق، عسكريًّا يمثل البحر الأحمر لمصر أحد الموانع والفواصل الطبيعية التي عملت كحامية لأمنها واستقرارها في العديد من مراحل العُمر المصري الطويل، مما سمح بتشكل حضارة الأمة المصرية كما نعرفها، ويماثله في هذا الدور العديد من مظاهر جغرافية مصر كالبحر المتوسط في الشمال والقطاع المصري الليبي من الصحراء الكبرى في الغرب، ولطالما ارتبطت ممارسة مصر (دولة وشعبًا) للسيادة أو النفوذ على تلك التخوم والمحيطات الحيوية بتقدم مصر أو تخلفها، فعادةً ما شهدت عهود التراجع والتدهور في تاريخ مصر انكماشًا لقوتها وفاعليتها نحو الداخل المصري دون المحيط الحيوي له، والعكس الصحيح، فلم يكن غريبًا إذن أن يطال النشاط البحري لأساطيل قدماء المصريين البحر الأحمر، وأن يكون الأخير معبرًا طبيعيًّا اتخذته مصر الفرعونية في التجارة مع المجال الإفريقي على عهود تحتمس الثالث ورمسيس الثالث، ومسارًا لحملة عسكرية نحو السودان في عهد محمد علي؛ للسيطرة على مينائي مصوع الاريتري وسواكن السوداني، فموانئ وجُزر البحر الأحمر ذات أهمية فائقة قديمة سبقت عصر النفط، الذي طبع الشرق الأوسط بالكامل بطابع له، وازدادت بحلول هذا العصر، نظرًا لطبيعة النفط والكيفية المثلى لنقله تجاريًّا. خلال السنوات الماضية ومع اشتعال المنطقة بفصل حاد وجديد نسبيًّا من الصراع الإقليمي على الثروات والقوة والنفوذ، نجحت العديد من القوى الإقليمية في تأمين نقاط ارتكاز لها في البحر الأحمر، ولا سيما في قطاعه الجنوبي المُحاط بكيانات يصعب وصفها بدول حقيقية، إما بالغة الضعف والفقر أو معرضة للانهيار والتقسيم، في ظل الواقع الإفريقي الذي فرضه ويفرضه الاستعمار بشكليه القديم والمعاصر، وفي ظل الضغوط والاختراقات والحصار الدائمة سعوديًّا بخصوص اليمن بموقعه بالغ الأهمية للولايات المتحدة، وبالغ الخطورة لآل سعود وهيمنتهم المضمونة أمريكيًّا على كامل شبه الجزيرة العربية والساحل الشرقي للبحر الأحمر، ومع صعود الدور الوظيفي لاقتصاد الإمارات العربية المتحدة في منظومة العولمة الاقتصادية ونشأة أحد أهم أذرع وروافع هذا الدور، شركة موانئ دبي العالمية العملاقة العابرة للقارات، انتقلت نقاط وقطاعات البحر الأحمر من وقوعها تحت تأثير أو نفوذ القوى التقليدية في المنطقة وعلى رأسها مصر والكيان الصهيوني ومملكة آل سعود إقليميًّا والولايات المتحدة عالميًّا، إلى تأثير قوى ذات صعود جديد وفي مقدمتها الإمارات التي اتسم مشروعها للنفوذ والسيطرة في البحر الأحمر بتناقض مرحلي مع المصالح السعودية، وسيكون استلام الأخيرة للجزيرتين المصريتين الواقعتين في عنق ممر العقبة المائي تعويضًا عنه، مع تناغم مصالح الطرفين في نقاط اتفاق أخرى كحليفَين يتم تجاوز التناقضات الثانوية بينهما بالتوافق والتعويض. بمقتضى بنود في اتفاقية كامب ديفيد، طالما تم التعتيم عليها أو تسويق التخفيف من آثارها السلبية، يُعَد ممر العقبة ممرًّا ملاحيًّا دوليًّا، الأمر الذي وُضِع في مصلحة الكيان الصهيوني الذي احتل نقطة وميناء أم الرشراش (إيلات صهيونيًّا) عام 1949، الواقع على رأس خليج العقبة مباشرةً، كفصل أخير للجانب المصري من الهزيمة العربية التي شهدها العام السابق، وبذلك أمّن الكيان لنفسه منفذًا على البحر الأحمر على حساب أرض تراوحت السيطرة عليها قديمًا بين الدولة العثمانية على مستوى رسمي ومصر بحكم الأمر الواقع وبمقتضى الأمن القومي للامة المصرية، وبذلك ضمن فتح مجال حيوي جنوبي له يناظر المجال الشمالي، أي ساحل البحر المتوسط، يكون بوابة طبيعية لمصالحه العليا ونفوذه نحو الشرق الإفريقي والجزيرة العربية، الأمر الذي شكّل نقطة قوة صهيونية حاسمة في مواجهة دولتين من "دول الطوق" هما مصر والأردن، كان التقاء حدودهما عند أم الرشراش (بزوال الدولة العثمانية) كفيلاً بحصار جغرافي للمشروع الصهيوني، الذي حسم سيطرته وتحييده لنقاط تماس استراتيجية مع دول الطوق باحتلاله لمرتفعات لجولان السوري عام 1967 وبتوقيعه لمنظومة كامب ديفيد مع مصر، وتورط طويلاً في محاولة فشلت لاحتلال الجنوب اللبناني للأبد، أو تطويعه، أي حصر الوجود العربي وراء نهر الليطاني من جهة فلسطينالمحتلة، فخرج الكيان الصهيوني من كامب ديفيد حاصلاً على "حرية الملاحة في ممر العقبة" كمكسب جيو استراتيجي تاريخي إذا ما اُضيف إلى باقي بنود المعاهدة، وإلى الآلية الأبدية التي احتوتها كل من المعاهدة والاتفاقية كضامن لبقائهما دون تعديل من الجانب المصري، وتكتسب تلك الآلية البقاء – بدورها – من حزمة أخرى من الالتزامات والشروط الثابتة من الجانب المصري نفذت إلى بنيته نفسها، وترسخت في منظومة القرار والتشريع إلى حد جعل من الاتفاقية منهج عمل في الاقتصاد والسياسة وغيرهما، كان استرشاديًّا ملزِمًا لمرحلة ثم أصبح رئيسيًّا بتوالي تراكم السياسات المقامة عليه. رغم ذلك خضعت جزيرتا تيران وصنافير المصريتان للتقسيم الإداري المصري، وتبعتا المنطقة (ج) وفقًا لتقسيم كامب ديفيد القطاعي لسيناء، مما أبقى لمصر إمكانية جاهزة للمشاركة الفاعلة والمبادرة – إن أرادت – في إدارة ممر العقبة المائي وما يشمله ذلك من أبعاد اقتصادية وسياسية حيوية، ومن ثم ظلت القيود الجغرافية لكامب ديفيد على مصر غير مكتملة، وذلك بسيطرة مصرية "مبدئية" على أهم نقاط ممر العقبة على الإطلاق، وهي مدخله، الذي يكفل السيطرة عليه والتحكم في نشاط ميناءي أم الرشراش والعقبة، والتأثير على كامل المجال الحيوي الجنوبي للكيان الصهيوني والشرقي لمصر والمنفذ البحري المفتوح الوحيد للأردن، أي أن الدور المصري ظل حاضرًا في كامل القطاع الشمالي للبحر الأحمر (خليجي السويس والعقبة)، وهو خاصرة أمن البلاد القومي بحكم واقع شرق مصر وجنوبها وتأثيرهما الطبيعي والمعاصر على كافة المناحي في الداخل المصري، من هنا فإن الضعف المصري الذي طالما ظل نسبيًّا في مقابل منظومة كامب ديفيد وحزمة شروطها المتعلقة بهذا القطاع، يصبح مطلقًا بتسليم الجزيرتين، سواء لسيطرة سعودية أو دولية، ويقطع إمكانية مصر في وضع ما قد توجبه الأحداث والمستجدات في المستقبل من خطوط حمراء لمصالحها بخصوص ممر العقبة، فضلاً عما سينتج من استحالة وجود شرعية دولية لتحرك مصري منفرد بخصوصه، مما سيخصم ما تبقى من حضور مصري في الممر البحري الأقرب على الإطلاق بين إفريقيا وآسيا، ويعوّض ما اضطر إليه الكيان الصهيوني من تنازل نسبي بقبول زيادة عدد وتسليح الدولة المصرية في المنطقة (ج) بعد انطلاق الإرهاب التكفيري في سيناء. من ناحية المملكة، جاء النجاح أخيرًا في حيازة مدخل ممر العقبة في سياق السعي المحموم للأطراف الإقليمية نحو ضمان نقاط للحضور والنفوذ في البحر الأحمر ومنافذه واحتلالها لجزيرة جبل زقر اليمنية في ديسمبر عام 2015، علاوة على انفتاح الطريق أمامها لتطوير التبادل التجاري البحري مع الكيان الصهيوني الذي يمثل توثيق وعلنية العلاقات معه أحد أضلع مشروع ترامب للمنطقة، وإتاحة وضع ارتكازات عسكرية لها تجعلها تسيطر على أحد مفاصل البحر الأحمر بعد تحكمها في مدخله الجنوبي بحربها على اليمن بالشراكة مع الإمارات، التي تسيطر على ميناء عدن المشرف مباشرة على مضيق باب المندب من الأراضي اليمنية، وتدير قاعدة عسكرية لها في جزيرة سوقطرة اليمنية المطلة على مدخل خليج عدن – المدخل الأبعد للمضيق، واخرى في جزيرة ميون اليمنية في المدخل المباشر للمضيق، وقاعدة كبيرة عسكريًّا وقتاليًّا في ميناء عصب الإريتري المطل مباشرةً على مدخل المضيق من ناحية البحر الأحمر، وقاعدة في ميناء بربرة المناظر لميناء عدن في الإطلالة على مدخل المضيق في جمهورية "أرض الصومال"، مع حصار الطرفين السعودي والإماراتي لميناء الحُديدة المنفذ الرئيسي لليمن على البحر الأحمر، وبحضور وإشراف ومباركة أمريكية وحضور صهيوني في مجموعة جزر دهلك الإريترية، وبمزاحمة (باتت من موقع الأقوى بالسيطرة على ممر العقبة شمالاً) للعديد من الأطراف الإقليمية هناك، مثل تركيا التي أقامت مؤخرًا قاعدة عسكرية لها في الصومال بالقرب من مطار مقديشيو، وحضور صيني وإيراني. موضوعات متعلقة