(1) ذات ليلة شتوية في أعقاب حرب الخليج الثانية، جمعتنا سهرة مليئة بالأسئلة في منزلي القديم بشبرا، كانت السهرة على شرف الصحفي اللبناني الكبير حسان الزين رئيس تحرير مجلة "الشاهد"، وتطرقت المناقشات إلى الوضع العربي وسيناريوهات المستقبل، وأشاد صديق من الساهرين بافتتاحية مجلة "الشاهد" في ذلك الشهر، مؤكدا أنها الأكثر تعبيرا عن الحالة العربية، وفاجأنا الزين بأنه كتب الافتتاحية قبل ثلاثة أشهر، لأنه يطبع غلاف المجلة والملزمة الأولى في إيطاليا، وبالتالي لابد أن يرسل الافتتاحية قبل صدور العدد في الأسواق بشهرين أو ثلاثة على الأقل، وقال لهجته الشامية المحببة: وهادي شغلة ما تحتاج صحافي.. تحتاج نبي، وكان الزين يقصد أنه يفكر في اختيار عنوان وموضوع يصلح للقراءة في وقت صدور المجلة، وليس في وقت الكتابة، لأن قارئ الصحف والمجلات يتفاعل مع اللحظة، أكثر من تعامله مع الفكرة. (2) تذكرت تعبير "الزين"، وأنا أتابع الاستقبال الأسطوري لترامب في السعودية، وأسأل نفسي عن الأسباب الكامنة وراء هذه المبالغات المريبة، ووراء الصفقات الضخمة التي تثير الخوف والتشكك أكثر مما تثير الدهشة، وتذكرت مقالا قديما كتبته في مارس 2011 بعنوان "شاهدنا الفوضى.. أين الخلاقة؟"، ولما أعدت قراءته عاد تعبير الزين يرن في رأسي: كيف يصلح مقال كُتب ونُشر قبل أكثر من 6 سنوات، للتفاعل مع اللحظة، وربما إعادة النشر من دون خلل كبير في الرسالة؟، وحب الزين فإن هذا يعني أنني "نبي" أو أن الواقع راكد لا يتحرك، ولأنني لست نبياً، فإن المشكلة تصبح إذن في عدم تحرك الحياة والمفاهيم في البركة الآسنة التي نغرق في أوحالها، ولهذا تصاعدت في رأس فكرة نشر المقال كما هو حرفيا، ودون تغيير أي كلمة، حتى "المجلس العسكري" الذي كان يحكم حينذاك، وما علينا إلا أن نعيد القراءة بعقل أعمق، يركز على الفكرة دون تفاصيلها الخارجية، فربما نكتشف أن القصة هي.. هي، وأن المشكلة في استهلاكنا للكلام والتحذيرات، من دون أن نفهمها، أو ننتبه لما يدور.. وإلى نص المقال: (المقال) لا أشعر بالصدمة مما يحدث في مصر من فوضى وانفلات أمني وسياسي وإعلامي، فهو أمر متوقع، وبالرغم من أنه يثير القلق، إلا أن القليل منه ضرورة لترتيب المستقبل الذي نسعى إليه، فالثورات لا تحدث فجأة، ولا يمكن للشعوب أن تصل إلى صيغة جديدة ومنشودة إلا بعد أن تدفع الثمن، وكل ما نأمله أن يكون هذا الثمن مقبولا، ومعقولا، ومناسبا لما نحصل عليه. طبعا نحن نعرف أن أي تغيير هو محصلة صراع بين مجموعة من القوى والعوامل، ولا نتخيل أبدا أن يستسلم القديم للجديد بسهولة، فكل طرف يقاتل من أجل ما يتصور أنه يحقق مصلحته، ولاشك أن 30 عاما من حكم مبارك قد أسست وكرست لمجموعات مصالح وجماعات قوة، وعصابات فساد منظم، وكتائب من البلطجية والمرتزقة الذين يخدمون هذه المافيا في الخفاء والعلن، بل والمؤسف أن قطاعات كبيرة من أبناء الطبقة الوسطى بما فيهم أنا وأنتم اضطررنا للتعامل مع ذلك النظام وحاولنا بنسب متفاوتة أن نحقق ما نستطيعه من مكاسب تيسر لنا الحياة بأقل درجة ممكنة من الفساد، لكن ذلك الفساد طالنا جميعا بصورة أو بأخرى، وهذا يبدو في ركاكة اللغة التي نستخدمها نتيجة تدهور مستوى التعليم وتدني الثقافة، كما يبدو من محاولة تحقيق أقصى درجة من المكاسب الشخصية على حساب المصلحة العامة، ويبدو أيضا من خلال انهيار حالة الثقة بيننا وبين الدولة، وكذلك بيننا وبين بعضنا البعض، باختصار أقول أن 30 عاما من التسلط والفساد لم تكن لتمر من دون أن نؤثر في المجتمع كله بشكل سلبي.. لكن الآن يجب أن ندرك أن الأمر تغير، وبالتالي لا يصح أن نسعى للجديد بنفس أساليب وممارسات القديم، وكأننا نؤذن للصلاة ونحن نتوضأ بالأوحال، يجب أن ننظم صفوفنا بسرعة وننتبه إلى أن حالة الفوضى ضرورية فقط في مرحلة تفكيك النظام، وهي المرحلة التي أنجز الشعب جزء كبير منها بنجاح مبهر، تتبقى أمور إجرائية نأمل أن يسارع المجلس العسكري وحكومة تسيير الأعمال في إنجازها بسرعة لتركيز الجهود على عملية تأسيس وبناء النظام الجديد، فليس من المفيد ذلك التباطؤ المريب في إحكام السيطرة على مراكز القوة المناوئة والتي بدات تنظم صفوفها للانقضاض على مكتسبات لثورة الوليدة، يجب أن تضع السلطة المؤقتة يدها على كل مؤسسات الدولة مثل الوزرات السيادية، وجهاز الأمن، والجهاز المركزي للمحاسبات الذي أغلقه الدكتور الملط إرتيابا من الأيدي الطويلة التي سعت لحرق مستندات الفساد داخل الجهاز، ولست أفهم لماذا تأخرنا حتى الآن في اتخاذ خطوات حاسمة لضمان السيطرة على الأجهزة الأمنية أولا، ثم إعادة هيكلتها ثانيا، فهي الآن تتحرك بارتجال وفزع كجماعات سرية تهدد الأمن أكثر ما تحميه، وهذا أمر يمكن أن يفسره البعض بحسن نية، أو يعتبره آخرون رد فعل طبيعي يحاول من خلاله "الباشاوات" الحفاظ على "برستيجهم" ومكانتهم الوظيفية. المؤسف أن الطريق إلى "جحيم الفوضى" مفروش بمثل هذه "النوايا الحسنة"، ولعل بعضكم قرأ دراسة "مايكل ليدين" الباحث الشهير في معهد "أمريكا انتربرايز" ومؤسس مفهوم "الفوضى الخلاقة"، والذي أطلق منذ عام 2003 مشروع "التغيير الشامل في الشرق الأوسط" مرتكزا على ضرورة هدم وتدمير بنية هذه المجتمعات قبل إعادة بنائها من جديد، لا بأس من كلام ليدين ولا نعتبره مؤامرة، لكن المؤامرة الحقيقية تتضح من خلال تطوير نظرية "الفوضى الخلاقة" بمعرفة رجل البنتاجون "توماس بارنيت"، والذي يسعى لزعزعة الاستقرار السياسي فيما يسميه "بلدان الثقب" من أجل تبرير تدخل "بلدان القلب"، ويقول صراحة في دراسته: "ونحن الدولة الوحيدة التي يمكنها ذلك"، فلا تفتحوا الطريق أمام ذرائع أمريكا، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة، والحوار مستمر.. (تعليق قصير) هل انتبهتم إلى توصيف جماعات المصالح ومافيا الفساد والمرتزقة والبلطجية، وكيف يستمرون في كل عصر. هل انتبهتهم إلى وضعية الجهاز المركزي للمحاسبات في أجواء ما بعد الثورة: ماذا كان الأمل، وكيف صار الحال؟ هل انتبهتهم إلى حالة الأجهزة الأمنية، وأحلام التطهير وإعادة الهيكلة، وكيف عادت ريما إلى الدولة القديمة؟ هل انتبهتم إلى خطوات التفكيك المتعمد، ليس في مصر وحدها، وليس في العراق وليبيا وسوريا فقط، ولكن لإعادة صياغة المنطقة كلها حسب الكتالوج الأمريكي، وإجهاض شعارات الربيع العربي بعد استخدامها كمحركات لبدء تسيير القاطرة الأمريكية في المنطقة؟ هل يمكنكم الربط بين ذلك كله، وبين علاقة الأنظمة العربية بشعوبها من جهة، وعلاقتها بالسيد الكبير في البيت الأبيض، ودور هذه الأنظمة في خدمة استراتجيات الإدارة الأمريكية، دون أي اعتبار لمصالح شعوب المنطقة؟. إذا فكرتم في هذه الأسئلة، وفكرتم في جسور الربط، يمكنكم الوصول إلى المدخل الصحيح لقراءة زيارة ترامب، وما يترتب عليها من خطوات تريد أمريكا ترتيب المنطقة على أساسها ضمن استراتيجية تسعى لنهب موارد قارة أفريقيا، وتمكين الوجود اللوجيستي الأمريكي في المنطقة باعتبارها "محطة خدمة" للأمريكان على طريق الاتجاه نحو شرق آسيا، والمضحك أن ملاك وعمال "محطة الخدمة" لا يتلقون "البقشيش" من عابري الطريق، بل يدفعون البقشيش، ويدفعون أيضا أثمان سيارات العابرين ووجباتهم، وأشياء أخرى أخجل أن أكتبها. أيها النخاس السافل ترامب/ لاعيب عليك العيب على العبيد الذين ينحنون باسمين ويطالبونك بأنك تركب عليهم و"تدلدل رجليك". [email protected]