” أولادكم ليسوا لكم ، أولادكم أولاد الحياة، والحياة لا تقيم في منازل الأمس”... هكذا سنّ جبران خليل جبران ، القانون الذي يوافق سنة الله في كونه ،التي جعلت لكل زمان دولة ، ورجال ... وحين يتصدى ” رجال” الأمس، لنواميس الله في كونه، فيبدون حرصا عجيبا، لا يحيدون عنه، على ان يتصدروا ساحات اليوم، والغد أيضا، فان هذا يعني بجلاء أننا ازاء مسرحية ميلودرامية زاعقة، وان لم تخل من لمحات الكوميديا السوداء، التي تضفيها على المشهد تصريحات منسوبة إلى ” مسؤولين كبار”، لا تذكرنا بشيء أكثر من ” لعثمة ” الضاحك الراحل يونس شلبي، في مسرحيتي “ مدرسة المشاغبين” و” العيال كبرت “، كبرت بأكثر مما يظن ” حضرة الناظر” ! عن أعضاء المجلس العسكري، الذين يقيمون في منازل الأمس، ويفكرون بأسلوب أول من أمس، ولا يريدوننا أن نبني للغد، أتحدث... عن جيل كان مطربه المفضل محمد عبد الوهاب، بطربوشه المائل ، فكان ينظر الى عبد الحليم حافظ ، حاسر الرأس ، باعتباره ” رقيعا مخنثا ” ، لا أكثر ... ولعل الملهاة لن تكتمل في أعينكم، بغير ان انقل لكم مشهدا تمثيليا ركيكا من احد افلام ثلاثينيات القرن العشرين،( التي كان نجمها ذائع الصيت اسمه ” بحبح”، وربما تم عرضه حين كان المشير طنطاوي يفتح عينيه على الدنيا ، للمرة الأُولى !)، حين كان أحد ” عواجيز ” الفيلم يّسر الى أحد أصدقائه من العواجيز الآخرين ، بامتعاضه من سلوك ” شباب اليومين دول ” ، الذي رآه لا ينسجم مع معايير السلوك القويم، كما يتوهمه !! هل يُعيد التاريخ نفسه ، اذن ؟! الأرجح أنه أحيانا ما يُعيد نفسه ، اذا ما كان ذلك ممكنا ، ما يبدو منطقيا كذلك اذا ما تذكرنا أن المقدمات التاريخية المتشابهة، تؤدي بالضرورة الى نتائج تاريخية متشابهة، ولو أن التاريخ يُصر أحيانا على أن تكون عودته مأساوية ، لا أن ترتدي ثوب الملهاة كما نراه في حالتنا المصرية الراهنة . حيث الجيل الذي لما يزل يقيم في منازل الأمس، ويفكر ويعمل ويحكم على الأمور وفقا لمعاييرها منتهية الصلاحية ، لا يتورع عن اتهام جيل اليوم ، الذي يشق طريقه إلى مستقبله الحر ، عُنوة ، تحت وابل الرصاص الحي والمطاطي والخرطوشي ،يتهمه بأنه ” فاسد” و” لا يعرف مصلحته ” ، وتلك تهمتان قديمتان قدم الزمان ، على أي حال ، أما التهمة الجديدة التي حاول بها جيل ” الجرامافون” ، أن يبدو” عصريا ” ، فهي تلك الفرية التي حاول جهده أن يلصقها بأعناق الثوار ، الذين يُذكرونه بعجزه ، وهوانه، وقصور همته ، واستلاب إرادته ،القديم والمقيم :” ان هؤلاء الشباب مغرر بهم ، ويعملون لصالح أجندات أجنبية ، لا تريد الخير لمصر ” ...فهل يعني هذا وجود “أجندات أجنبية” ، تريد الخير لمصر، يتعامل معها العسكر ، بأريحية “حاتم طي” ، واطمئنان لأغراضها ، التي تُكلفها ما يربو على المليارين من الدولارات ، سنويا ؟! لا أحد يمكن أن يُماري في ” حق” كل جيل أن يرى الجيل الأحدث، خارجا على “النواميس”، ومخالفا لتقاليد ” القبيلة”، فذلك ما يبدو ” سّنة كونية “، ليس منها فكاك، أمّا ما يبدو خارجا على كل منطق، ومتصادما مع كل القواعد التي رعى العقل البشري مسيرتها منذ الأزل، أن نسمع تلك الافتراءات ممن يبدون منغمسين في الوحل، حتى أذقانهم، ما يجعلهم أشبه ما يكونوا بقوم النبي لوط (عليه السلام )، الذين كانوا يأتون أخبث الخبائث، إذ تنادوا لطرد آل بيت الطُهر من بلدتهم، لأغرب سبب يمكن أن يأتي على لسان بشر، في مجال الذم:” أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أُناس يتطهرون”!... فهل لدى أعضاء المجلس العسكري، ومستشاريه المتقاعدين، وجوقته الإعلامية التي تنافس بعضها البعض تهافتا، وضحالة، وديماجوجية، هل لديهم ” اتهام” آخر يريدون أن يدمغوا به جيل الثورة، الذي يمثل النقيض الكامل، لكل التشوهات الفكرية والنفسية، التي صنعتهم، غير أنهم ” جيل طاهر” حقا لم يتدنس، في مستنقعات النظام الآسنة، التي عاش فيها جيل الأمس عمره كاملا، “ جيل طاهر”، لم يتعلم أن ” إطعام الفم كفيل بأن يجعل العين تستحي”، من خلال ارتباط المصالح الاقتصادية الشائنة، مع أزلام النظام في الداخل، ومع رعاته الكبار في الخارج. ” جيل طاهر”، لا يريده الاستخدام المفرط لآلة القمع الرسمية، سوى إصرارا لا يحيد على أن ينال كامل حريته، بدمه، لا منحة، ولا هبة من أحدهم. هل يمتلكون” تهمة “غير تلك التي تُشرف من توجه إليه، بذات القدر الذي يتوجب على مطلقيها أن يخجلوا من أنفسهم ، وهم يتطلعون في مراياهم، فلا يطالعون ، بعيدا عن صبغة الشعر المستعارة ، سوى أعين كالحة و أنياب ومخالب ، يتساقط منها فُتات لحم الثورة والثوار الذين يصدق عليهم قول الرئيس جمال عبد الناصر :”جيل جاء في موعده مع القدر” ، ليمسح آثام الأجيال الخانعة التي عاشت عمرها كله ،مواتا بلا روح ، لا تفكر بغير قواعد ” التسول الجماعي”، ولا ترقع عقيرتها بغير صياح :” المنحة يا ريس” ، تموء كما القطط ، بانتظار ما يتفضل به أزلام النظام المستبد، من ” بقايا” موائدهم... !