«مزيج بين الصراحة الشديدة والغموض الجميل، بين الفن والفلسفة، بين غاية التعقيد وقمة البساطة، بين مكر الفلاح وشهامة الصعيدي، بين ثقافة المفكرين وطيبة البسطاء، هو السهل الممتنع، الذي ظن البعض أن تقليده سهل وتكراره ممكن».. كلمات وصف بها محمد توفيق في كتابه «الخال»، عبد الرحمن الأبنودي، الذي تحل ذكرى مولده اليوم. «همج بتزرع حرايق في بلاد الحلم.. كإني في مسرحية أو بأشاهد فيلم.. خلصنا م اللي في يوم عطل مسيرتنا.. جونا اللي ما يكرهوا إلا انتصار العلم! يا زارع الغل.. مصر بتزرع الغلة.. وانت كذاب خلطت البلطجة بملة.. اللي رشاك بالتمن وقالك اقتلني..أنا وانت وسط اللهيب.. وهوه في الضله».. كلمات نظمها الأبنودي تصف الأوضاع التي نعيشها حاليا؛ من تفجيرات، وكأنها حاضرا معنا يشاركنا آلامنا. ولد الأبنودي 11 إبريل عام 1939 في قرية أبنود بمحافظة قنا بصعيد مصر، وكان أبوه يعمل مأذون القرية، نشأ على حب الشعر؛ ففي صباه نظم عددا من القصائد الوطنية، ومن فرط حبه للشعر، أهمل دراسته بعد الثانوية العامة، ولم يحصل على ليسانس الآداب إلا بعد رحلة في كتابة الشعر. جاء الأبنودي إلى القاهرة بعدما ذاع صيته في القرى المجاورة لقريته بأنه شاعر، وفي العاصمة كان الركن الثالث لصديقين مثلوا سويا الثقافة واللغة العربية بكل مستوياتها في ستينات القرن الماضي؛ حيث كان الأبنودي شاعرا للعامية، وأمل دنقل شاعرا فصيحا، ويحيي الطاهر عبد الله قاصا وروائيا. ويتحدث الأبنودي عن هذه الفترة في مذكراته، قائلا: "قبل الانتقال النهائي للقاهرة والإقامة بها مع أحد بلدياتنا أنا والشاعر الراحل أمل دنقل.. وفي بلدتنا قنا بعد أن ذاع صيتنا في البلاد التي حولنا كشعراء جدد.. جاءنا شاب أسمر من الأقصر وهو الروائي الراحل يحيي الطاهر عبد الله، الذي عرفنا منه أنه ترك قريته هناك لكي يعيش معنا في قنا.. وقد فوجئت به أمي حين أخبرها أنه يريد أن يعيش معنا في بيتنا، وقد سمحت له بذلك إلى أن اصطحبنا حين انتقلنا إلى القاهرة، وقد سلك طريق كتابة الرواية واشتهر في مجالها وتمسكت أنا وأمل بكتابة الأشعار.. وفي هذا الفترة أو في هذه المرحلة كنت قد بدأت أراسل الصحف بالقاهرة وكذلك مجموعة من الشعراء هناك.. وقد لعب الحظ دوره الكبير حين نشر لي الشاعر الراحل الكبير صلاح جاهين أول قصائدي في مجلة "صباح الخير" وفي باب كان يحرره تحت عنوان: شاعر أعجبني". وعن الخطوة المصيرية في حياته وبداية انطلاقه، يحكي الخال: "كنا في هذه الفترة نعيش خطرا داهما في مجال زراعة القطن، حيث انتشرت الدودة وأصبحت تهدد هذا المحصول، وفي هذا الوقت كتبت قصيدة عن القطن، وكيف نقاوم هذا الخطر، وفوجئت في عدد (صباح الخير) أن صلاح جاهين نشر هذه القصيدة مصحوبة برسم لأكبر رسامي المجلة، ومنذ أن نشرت هذه القصيدة العامية، أحسست أنني وضعت قدمي فوق مشوار الشعر، كما أنها فتحت لي أبوابا كثيرة؛ حيث عرف الناس في المحيط الذي كنت أعيش فيه هناك أنني أصبحت شاعرا، والحقيقة أن أهمية هذه الأغنية أو هذه القصيدة لم تتوقف عند هذا الحد، بل جعلتني أرتبط بالشاعر الكبير صلاح جاهين، كما ساهمت في دخولي عالم الطرب من أوسع أبوابه حين فوجئت مرة أخرى بأن القصيدة تغنى في الإذاعة". واستطاع بعدها "الخال" أن يصنع لنفسه اسما بين الكبار أمثال فؤاد حداد وصلاح جاهين، وجعل للقصيدة العامية طابعا جديدا، ووسع من انتشارها، وجعلها لصيقة بالوجدان العام بعدما تم تداولها على ألسن كبار المطربين، كالعندليب الذي تغنى بالكثير من كلماته، سواء الوطنية "أحلف بسماها وبترابها، ابنك يقول لك يا بطل"، أو العاطفية "أنا كل ما أقول التوبة، أحضان الحبايب"، كما تغنى بكلماته محمد رشدي، وفايزة أحمد، وشادية، وصباح، ووردة الجزائرية، ونجاة الصغيرة، وغيرهم، وحصد الأبنودي عددا من الجوائز، منها جائزة الدولة التقديرية عام 2001، وجائزة الشاعر محمود درويش للإبداع الفني عام 2014، كما كان عضوا للجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة. وقبل أن يرحل "الخال" في 21 إبريل 2015، ترك لنا إنتاجا غزيرا من شعر العامية الذي يحوي الكثير من الصور الشعرية التي ساهمت وتساهم في تجديد القصيدة الفصحى، ومن أهم أعماله "السيرة الهلالية" التي جمعها من شعراء الصعيد، و"جوابات حراجي القط"، و"الأرض والعيال"، و"أنا والناس"، و"الموت على الأسفلت"، ومن أشهر كتبه "أيامي الحلوة"، وهو عبارة عن حلقات منفصلة نشرت في ملحق أيامنا الحلوة بجريدة الأهرام، ثم جمعت تحت هذا الاسم، وفيه يحكي الأبنودي قصصاً وأحداثاً مختلفة من حياته في صعيد مصر.