لماذا لا نقرأ التاريخ ونستفيد من عبره، فنحن أحوج ما يكون لذلك، بعد أن تشابه الأمس مع اليوم، ففلسطين الأولى سقطت في مخالب الانقسام ليمهد الطريق أمام احتلالها عام 1948. الانقسام الذي حدث في ثلاثينات القرن الماضي، يشبه تماما الظروف الراهنة، انقسام على السلطة بين عائلتي الحسيني والنشاشيبي أو ما كان يعرف (بالمجلسين والمعارضين)، تشتت الشعب بينهم وكانت فرصة للاستعمار لتنفيذ خطته في خلق شعب بديل، ولأن معظم أهالي فلسطين، أي ما يقارب 70% من التعداد السكاني كانوا فلاحين أصحاب أرض، وهربا من الضرائب والاستبداد الاستعماري لهم، كانوا يسجلون أراضيهم باسم العائلات الفلسطينية الكبرى، لكن تضارب المصالح، أوقع هؤلاء فريسة تحت وطأة الانقسام بسبب خلافات الزعامة في مدينة القدس وقيادة الحركة الوطنية، سارعت بعد ذلك القوى الوطنية بقيادة الحسنيين بتأسيس الحزب العربي الفلسطيني، ونكاية بهم قام آل النشاشيبي بتأسيس حزب الدفاع الوطني. كان الصراع يدور حول قيادة الشعب الفلسطيني إلى مصير مجهول، الأديب حسن الكرمي قص في مذكراته عن فلسطين في الثلاثينيات، وهو يقدم صورة مريرة عن الأوضاع في بلاده آنذاك، وبالتحديد تحدث عن فترة الانقسام بين العائلات الكبيرة وواجهاتها السياسية (الأحزاب)، وخاصة انقسام أتباع المفتي أمين الحسيني والمعارضين لهم (النشاشيبي)، تحدث أنه في الوقت الذي كان الوجود اليهودي في فلسطين يتوسّع ويتعزّز اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، وصل النزاع و"الإرهاب" بين الفلسطينيين إلى حد "أن تلك الأحزاب كانت من صنع أعداء الفلسطينيين، بل إنها كانت مفروضة عليهم، ليتساءل الكرمي "كيف يعقل أن تكون الأحزاب مختلفة حول القضية الأساسية وهي الدفاع عن الأرض؟". ونظراً لأنَّ والده كان أحد أركان المعارضة في فلسطين، فقد انتقلت التهمة إليه، حيث كانت المعارضة للمفتي الحسيني تعني "الخيانة" عند اتباعه ويتعرض صاحبها للتهديد بالقتل، بعد ذلك سقطت فلسطين في ظل نزاعات العائلات وفشلها في تحقيق أهدافها في المسؤولية والحفاظ على فلسطين. بعد مرور 81 عاما على الانقسام بين العائلات.. تكررت الصورة مجدداً، لكن هذه المرة بصبغة سياسية وبدون أرض وبلا فلاحين، فبعد فقدان الأرض أصبح الفلسطيني يبحث عن مواطنته ولا يحصل عليها، ما دفع الأحزاب السياسية إلى توفيرها لأعضائها؛ لكي يصبحوا أعضاء داخل الحزب، وتجمعهم به علاقة ترابطية تجعله يعادي من يعادي حزبه ويتصافى مع من يتحالف مع حزبه. حركتا فتح وحماس كانتا نموذجا استنسخ تجربة الانقسام الفلسطيني الأول الذي أضاع فلسطين، حركة حماس لطالما عارضت فتح بسبب مشروعها الوطني وبرامج منظمة التحرير، وفتح أيضا عارضت حماس وعرقلت طريق وصولها للحكم، إلا أن السيطرة على الحكم بالقوة أمعنت الشرخ الجغرافي بين الضفة وقطاع غزة، حيث بات الاثنان تحت الاحتلال كما كان الأوائل تحت الاستعمار. لكن.. ألم تعي القيادة الفلسطينية بعد أن الانقسامات تأتي لصالح العدو؟ وكما ذكرت في مقدمة الحديث أن الخلافات مهدت الطريق أمام الاحتلال لبناء دولته، والانقسام الثاني مهد للاحتلال مصادرة أكبر قدر ممكن من الأراضي الفلسطينية في ظل عدم وجود استراتيجية مقاومة مشتركة للوقوف أمام غطرسة الاحتلال، وفي ظل غياب شبه كلي لأي برنامج سياسي فلسطيني موحد يجتمع عليه الفلسطينيون تحت سقف وطني واحد، لكن الزعامة واللهث وراء السلطة حال دون الوصول لتحقيق المصالحة، وقد كشف الانقسام عورة الجميع، وأعتقد أنه ما زال من الممكن تحقيق المصالحة وتوحيد الوطن قبل فوات الآوان، ويبقى السؤال: إلى أين سيأخذنا الانقسام، إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه؟.