لا يمكن وصف لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب بولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلا باللقاء الناجح، فاللقاء الذي جمع الطرفين يخرج حتى عن طبيعة وسياق اللقاءات المماثلة بين كل رئيس أميركي جديد وحكام المملكة منذ أربعينيات القرن الماضي، فيأتي بعد عامين من التوترات والخلافات بين البلدين لم يسبق لها مثيل طيلة تاريخ العلاقات الثنائية بينهم، وضاعف هذا الأمر فوز رئيس قال إبان حملته الانتخابية "السعودية بقرة جف ضرعها وحان ذبحها". خرج لقاء ترامب وبن سلمان بلغة العلاقات العامة والدعاية الإعلامية بأنه مثمر وناجح و"وحدة الرؤيا والأهداف بين البلدين حول مختلف القضايا"، وتعهد بتسوية الخلافات الثنائية "الطارئة" حسب وصف مستشاري بن سلمان وتصريحاتهم لوسائل الإعلام المختلفة، مع التأكيد على الحفاوة والكيمياء بين الرئيس والأمير في مراسم الاستقبال والضيافة وما إلى ذلك من كسر البروتوكولات المعتادة في مثل هذه الزيارات. ولكن بعيداَ عن التقييم الإعلامي فإن هناك ما هو أدعى من وصف الزيارة بالنجاح على عكس سابقتها في يونيو من العام الماضي في الشهور الأخيرة للإدارة السابقة، والتي لم تكن على نفس المستوى من الحفاوة الدعائية والاهتمام التي حظيت به الزيارة الأخيرة. البيت الأبيض أصدر في بيان رسمي أن لقاء ترامب وبن سلمان جاء في إطار تطوير العلاقات الإستراتيجية بين البلدين على مستويات سياسية واقتصادية وأمنية وعسكرية، وأن الجانبين اتفقوا على تعزيز الجوانب الاقتصادية والتجارية وزيادة الاستثمار المتبادل فيما بينهما في مختلف القطاعات لاسيما قطاعات الطاقة منها، بما في ذلك حسب البيان بداية برامج استثمارات محتملة تقدر ب200 مليار دولار أميركي على مدار الأربع سنوات القادمة. دلالات نجاح هذه الزيارة لا تتوقف عند السابق أو حتى تغير خطاب ترامب تجاه السعودية، وتحوله من الهجوم الدعائي ضدها إبان حملته الانتخابية إلى تمكن المعطيات والمصلحة السياسية في خطابه والتي جعلت صحيفة «واشنطن بوست» تقول "الصفقة الجديدة التي أعطاها ترامب للسعودية تعطيها دفعة دعائية للأمام بعد سنوات من انتقاد علني للمملكة". وهو ما يؤشر بإعادة هندسة العلاقات بين البلدين على نحو يوازن بين الأولويات والمصالح المتبادلة داخلياً وخارجياً لكل من واشنطنوالرياض، وما بين العوائق في تسيير العلاقات بين البلدين بسلاسة كما كانت مثل الخلاف النفطي وقانون مقاضاة رعاة الإرهاب المعروف ب«جاستا»، وهو الأمر الذي سعت إليه الرياض منذ حسم الانتخابات الأميركية لصالح ترامب، ووظفت له كل مجهود ممكن من علاقات عامة وجماعات ضغط في واشنطن من أجل رسم محددات منطقية لعلاقة بناءة بين الإدارة الأميركية وبين السعودية، تقي الأخيرة تحول الخلاف السابق ذكره إلى عداء ممأسس على مستوى مؤسسات صنع القرار الأميركي. أي باختصار كانت الزيارة ناجحة بمعايير سعودية أكثر من معايير أميركية نظراً للتالي: على مستوى داخلي: حسمت الزيارة أمر المفاضلة الأميركية المطروحة في الأعوام القليلة الأخيرة بين بن سلمان وبن عمه ولي العهد الحالي وذو العلاقات القديمة الجيدة مع واشنطن، محمد بن نايف وجدارة كل منهما وتوافقه أيهما أكثر مع المصلحة الأميركية في مسألة من فيهم سيكون الملك القادم للسعودية؛ فبخلاف إقرار أن الزيارة على مستوى الحكومات وهو ما يخالف الأعراف التقليدية في تراتبية مهام الملك وولي العهد وولي ولي العهد، فإن الصحف الأميركية ومقربين من الإدارة الأميركية ومراكز البحث وصف بن سلمان بأنه "مستقبل السعودية" وذلك كإعلان شبه رسمي أن صراعات الحكم في بيت آل سعود خارج اهتمام الإدارة الأميركية الحالية وأنها لن تتدخل فيها على عكس ما كان يعول عليه مسبقاً في حسم الأمر لبن نايف تعويلاً على علاقاته الجيدة وثقة واشنطن ومؤسساتها الأمنية والعسكرية به. ويضاف إلى ذلك تفهم الإدارة الجديدة لطموح ونشاط الأمير الصغير (31 عام) ومدى نفوذه وتأثيره الفعلي بعكس ولي العهد، فالأول يضطلع بشكل فعلي في تحديد سياسات المملكة الخارجية والداخلية بشكل مطلق شبه منفرد، ولا يكاد أن يذكر أن هناك معارضة حقيقية لقراراته الخارجية والداخلية، وبالتالي فإن الدلالة الأهم لكيفية استقبال بن سلمان في واشنطن هو ثقة الأخيرة في أن هذا الشخص إن لم يكن الملك القادم فهو في كل الأحوال الحاكم الفعلي للسعودية والمتنفذ الأهم بين أمراء آل سعود. على مستوى إقليمي فإن أولوية الرياض المطلقة في سياساتها في المنطقة هو مواجهة إيران، وهو ما يتفق مع أولويات الإدارة الأميركية الجديدة تجاه الشرق الأوسط، وبالتالي بمنطق برجماتي تضمن السعودية -مع إسرائيل- لواشنطن موقف موحد ثابت يتقاطع مع المصلحة الأميركية بشكل استراتيجي قد لا يتوافر عند باقي حلفاء واشنطن في المنطقة تجاه هذه المسألة بكافة الأمور المتعلقة بها بداية من الملف النووي ووحدة رأي ترامب وبن سلمان في الاتفاق النووي، ومحاصرة حركات المقاومة وضمان الهيمنة الأميركية على الممرات المائية الإستراتيجية في المنطقة وخاصة في الخليج والبحر الأحمر، وهو ما يضاف عليه من زاوية سعودية قبول أو بالحد الأدنى عدم اعتراض أميركي على سياسة التصدر السعودي وقيادة الرياض مع تل أبيب لسياسات الدول الحليفة للولايات المتحدة في مجلس التعاون الخليجي أو في المنطقة ككل، وتوظيفها في "الحرب الإقليمية الباردة" في المنطقة بين هذان الطرفين بشكل رئيسي وطهران. وعلى نفس المستوى ضمنت واشنطن أن الرياض لن تتجاوز حد المناورة في توسيع علاقاتها الدولية الإستراتيجية ونفوذها الإقليمي إلى الحد الذي يغنيها عن الشراكة الإستراتيجية مع واشنطن، وذلك بعدما فتحت الرياض أفق جديدة بتصريحات صاحبت الزيارة الأخيرة حول سوريا، ووصف مستشاري بن سلمان لاستمرار الحرب هناك ب"المعركة الخاسرة"، وهو ما يشير إلى إرهاصات تماهي سعودي مع واشنطن فيما يخص رؤية الأخيرة تجاه تسوية الأوضاع في سوريا، والتي حيالها قد لجأت الرياض في وقت سابق إلى سياسات منفردة عشوائية أو عبر تعزيز تحالفها مع تركيا –التي تجابهه إستراتيجية واشنطن في سوريا على عدة مستويات- أو فتح مجالات إستراتيجية بديلة بين الرياض وبريطانيا والصين وحتى روسيا. السابق يتفق مع محددات وأولويات الإدارة الأميركية الجديدة تجاه الشرق الأوسط، وبالتالي يمكن القول أن الخلافات الثنائية بين الرياضوواشنطن في العاميين الماضيين والتي كانت ذروتها أزمة «جاستا» ستترك لمسارات إجرائية وقانونية طويلة الأجل ويمكن معالجتها بمعزل عن المواقف الدعائية السابقة ووفق برجماتية سياسية تحول دون تحول هذه الأزمات لعقبة في سبيل توحيد رؤية كل من البلدين –ورغبة السعودية المُلحة في ذلك- تجاه مختلف الملفات في المنطقة. وبالنسبة للمسألة النفطية وانتفاء غرض الشراكة الإستراتيجية المعهودة بين البلدين من حيث توسع إدارة ترامب في سياسات الطاقة الجديدة القائمة على الاكتفاء الذاتي من النفط الصخري، فإنه بحسب بيان البيت الأبيض يوجد إرهاصات لاتفاقيات اقتصادية إستراتيجية باكورتها برامج استثمار متبادل بقيمة 200 مليار دولار. وبشكل عام، فإن مبعث القلق السعودي من التحول المزمع الذي وعد به ترامب ناخبيه، خاصة ما يتعلق بالعلاقات مع السعودية قد انخفض بشكل كبير بعد هذه الزيارة التي تزيد عن كسر الجليد والمكاشفة وتقل عن تسوية شاملة لكافة الخلافات بشكل استراتيجي في المستقبل، فاستيضاح نية ترامب وإدارته تجاه السعودية يأتي بعد توتر من عدم وضوح سياسات الأخير المستقبلية، وكذا عجز الرياض عن سد الفراغ الأميركي في المنطقة سواء بالحشد والاصطفاف – بما فيه الطائفي- أو بمعالجة جوهرية وبنيوية لبديل عن التعويل التاريخي للرياض على انحياز واشنطن المضمون لمصالح البيت الحاكم ومراعاة ذلك في أولويات السياسة الأميركية في المنطقة. وبالتالي سواء كان التوجه الأميركي في المستقبل القريب هو فك الارتباط جزئياً بالشرق الأوسط، ومشاكله المكلفة بالنسبة لواشنطن، أو مداورة الزوايا حول قضاياه وملفاته مع باقي القوى الدولية، وإنهاء حالة التفرد والانفراد التي استمرت فترة ما بعد حرب الخليج الثانية وحتى غزو العراق، فإن الرياض ضمنت بالحد الأدنى موقعاً مميزاً في إستراتيجية إدارة ترامب الخارجية حتى وإن كان الأمر بالنسبة لأي من الطرفين عبارة عن "فترة انتقالية" بين إستراتيجيتين الأولى كانت الهيمنة المباشرة والتدخل المباشر من جانب واشنطن والذي بنت على أساسه الرياض سياساتها على أنها جزء أصيل منه، وبين إدارة غير مباشرة دون انخراط عن طريق وكلاء إقليميين ستكون الرياض جزء منه بدافع من توافق أولويات أهم من عوائق مثل «جاستا» أو غيره بين البلدين على مستوى ثنائي قد تُحل في مسار قانوني وإجرائي بعيداً عن المسار السياسي الذي يتحكم فيه مبدأ المصالح بشكل رئيسي.