لم ينقضي العام الثاني على تولي الملك سلمان بن عبد العزيز حكم السعودية ليتأكد أن التوترات التي استهلت حكمه بين القاهرةوالرياض لم تكن سوى مقدمة لخلافات أوسع متراكمة ومركبة، لم تشفع لحلها الزيارات المتبادلة ولا الابتسامات الموزعة بسخاء أمام كاميرات الإعلام، وأخيراً الوساطة العربية ممثلة في دولة الإمارات لإصلاح ما وصلت إليه العلاقات بين مصر والسعودية من تدهور هو الأول من نوعه منذ ما يربو عن الأربعة عقود. الخلاف الذي بدأ بين البلدين بسبب رؤية المملكة منذ بداية 2015 لضرورة إصلاح ما فسد بينها وبين تركيا وقطر منذ 2011، وما نتج عن ذلك من دعم الرياض للإطاحة بحكم جماعة الإخوان في مصر، ودعم اقتصادي وسياسي وإعلامي من جانب الملك السابق، عبد الله بن عبد العزيز، لنظام ما بعد الثلاثين من يونيو، سرعان ما تحول في عهد سلمان إلى دعم مشروط بتحقيق القاهرة لرغبات المملكة البادئة بضرورة المصالحة مع جماعة الإخوان المسلمين، وتالياً إصلاح العلاقات مع الدوحة وأنقرة، مروراً بدور عسكري فاعل للقاهرة في حروب المملكة في اليمن وسوريا، ونهاية بضرورة تسليم جزيرتا تيران وصنافير ومضيق تيران المشرف على خليج العقبة، والذي يعد ثاني أهم ممر مائي مصري بعد قناة السويس إلى السعودية. أمام هذه الرغبات والأوامر السعودية كانت استجابة القاهرة المتفاوتة والمماطلة، رجاءً لاستمرار المساعدات المالية، وكذا انتظاراً لتحسن موقف مصر الخارجي، والذي كانت تعول فيه القاهرة على الرياض –بجانب أبو ظبي- كحليف شبه وحيد مؤيد لما حدث في الثلاثين من يونيو2013، ولكن الذي حدث أن أولويات المملكة ومصلحتها خالفت ما كانت ترجوه القاهرة من استمرار الدعم المالي والسياسي السعودي، وهي الأولويات التي لم تكتفي السعودية بتسليم القاهرة طيلة العام الماضي لموقفها السياسي الخارجي والإقليمي تحديداً، ولكن أمتد إلى ما يشبه الأوامر التي رهنت باستمرار الدعم الاقتصادي، سواء في مسألة إرسال قوات مصرية إلى الخارج لخوض معارك المملكة في سوريا واليمن، وإغفال كافة الحلول الوسط التي اقترحتها القاهرة –مثل اقتراح القوات العربية المشتركة- وصولاً إلى عجز السعودية بالإيفاء بالمساعدات المالية الخارجية واستمرار "المال السياسي" بدون شروط ولا قيود، بسبب الأزمة الاقتصادية وانخفاض سعر النفط، وبالتالي البحث عن مبررات وحجج لقطع المساعدات عن مصر، مثلما حدث في الأزمة الأخيرة المتمثلة في قطع إمدادات الوقود عن مصر، والذي تم إخراجه سعودياً على أنه رد على موقف مصر في مجلس الأمن تجاه الأزمة السورية ومشاريع القرارين الفرنسي والروسي في أواخر سبتمبر الماضي. في سياق أعم، شكلت متغيرات كثيرة في المنطقة والعالم على مؤشر توتر العلاقات بين مصر والسعودية، بداية من الانكفاء السعودي في اليمن وسوريا، مروراً بتوقيع الاتفاق النووي الإيراني، وأخيراً فوز المرشح المعادي للمملكة، دونالد ترامب، برئاسة الولاياتالمتحدة، وذلك في توقيت حرج يشهد ذروة تأزم العلاقات بين واشنطنوالرياض منذ نشأة الأخيرة، ليس فقط لعدم ضبط التوافق بين البلدين فيما يخص سياسات واشنطن في المنطقة، ولكن بشكل أعقد وعلى مستوى ثنائي متمثل في تصاعد معارضة الغطاء السياسي الذي كفلته واشنطن على مدار العقود الماضية للسعودية، كونها دولة راعية للإرهاب ومتورطة بشكل أو بأخر في استهداف أميركيين في الداخل والخارج، وصولاً إلى تشريع قانون يتيح محاكمة الحكومة السعودية وأمراء آل سعود في تهم متعلقة بالإرهاب وهجمات 11 سبتمبر. ليأتي ترامب ويضع في أولوياته إنهاء سياسة التحالف بين البلدين على أساس تأمين الحماية والقوة العسكرية والسياسية للمملكة نظير تأمين السعودية النفط الرخيص للولايات المتحدة. هذه المتغيرات السابقة أفضت إلى تفاقم التباين بين القاهرةوالرياض إلى حد الخلاف العلني والأزمة السياسية بين البلدين، فالأولى التي اعتمدت سياسة عدم التصعيد والوقوف على حلول وسط –حتى وإن أدت إلى التنازل عن أراضي مصرية للمملكة- بدا لها مؤخراً أن الأخيرة لن ترضى إلا بمعادلة تبعية كاملة من جانب مصر نظير المساعدات المالية واستمرارها، وليست فقط تبعية أو تذيل الموقف المصري للسياسة السعودية تجاه ملف بعينه مثل اليمن أو سوريا، ولكن إجبار القاهرة على اصطفاف إقليمي يضم الدوحة وأنقرة يعمل في بعض مفاعيله ضد مصلحة القاهرة وبموافقة ورضا "الحليف" السعودي. ويمتد الأمر السابق إلى محاولة سعودية لتقييد التحركات الخارجية المصرية على مستوى العلاقات الثنائية بينها وبين دول كبرى مثل روسياوالولاياتالمتحدة وفق أجندة وأولويات سعودية أرادت إرجاء هذه التحركات المصرية ورهنها بتبعية القاهرة للقرار السعودي أمام موسكووواشنطن، بما في ذلك العلاقات العسكرية بين القاهرةوموسكو، حيث جاءت الأزمة الأخيرة المتعلقة بوقف إمدادات الوقود نتيجة لتوسيع التعاون العسكري بين مصر وروسيا تحت عنوان مناورات "حماة الصداقة"، والتي عولت الرياض على "منح" مثل هذه الامتيازات لروسيا في المنطقة مستقبلاً إذا ما تساهل الكرملين مع ما تريده المملكة في سوريا، كرسالة بأن الموقف الأقليمي "العربي" بما فيه الموقف المصري لا يخرج عن طوع الرياض وبوصلة اتجاهاتها. فيما لوحت السعودية إزاء التصعيد الأميركي بمختلف درجاته ضدها بنفس ورقة "الاصطفاف العربي" خلف السعودية، دون اعتبار لمصلحة أي من المصطفين خلفها بما فيهم مصر، التي اقتنعت مؤخراً بأن المملكة لا تريد تحالف أو شراكة أو اصطفاف وتفاهم إزاء ملف أو أكثر، ولكن تبعية شاملة تتخلى فيها القاهرة حتى عن ما كانت تضطلع به كدور إقليمي تقليدي، مثل القضية الفلسطينية والعلاقات العربية مع إسرائيل، وصولاً إلى التدخل الصارخ في الشأن الداخلي المصري وعمل مؤسساته مثل الأزهر والإعلام، وقبل ذلك محاولة إحراج النظام شعبياً بوقف إمدادات الوقود في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية، وأخيراً إحياء أو تفعيل ما كان ولي ولي العهد السعودي ووزير الدفاع ونجل الملك، محمد بن سلمان، يسعي إليه حتى قبل وفاة الملك عبدالله وتولي والده، والمتمثل في اضطلاع المملكة في دعم معارضة مصرية وتنظيم صفوفها، مكونة من إخوان الخارج وبعض الوجوه الليبرالبية المحسوبة على نظام الإخوان. بالنسبة للأزمة الحالية بين الرياض و القاهرة، فإن الأخيرة على مدار الأسابيع القليلة الماضية راهنت على المدى القريب في وساطة عربية تنهي الخلافات بحل وسط دون تصعيد أو رد فعل منها يتأزم الموقف منه أكثر، سواء لعدم الرغبة أو لعدم القدرة. وراهنت على المستوى المتوسط والبعيد بتغير معادلات السياسة الخارجية الأميركية تجاه الرياض بعد انتخاب ترامب والتي ستجعل للرياض استدارة إيجابية ناحية القاهرة مثل التي حدثت ناحية الإخوان لنفس الدوافع –حشد طائفي لدول المنطقة ضد إيران بعد فشل إجهاض الاتفاق النووي وتخلي واشنطن عن خيار الحرب- ضرورة لا مفر منها سواء كانت السياسات الأميركية سلبية وتصعيديه -مثل تفعيل جاستا وتسوية حرب اليمن على غير ما تريده الرياض- أو إيجابية ناحية تعطيل تنفيذ الاتفاق النووي و التصعيد ضد إيران وتعثر التفاهم بين موسكو و واشنطن فيما يخص سوريا والأزمة الأوكرانية والمنطقة بشكل عام. سعودياً، فإنه يبدو للمرة الأولى منذ تولية سلمان وتصاعد الخلافات بين الرياضوالقاهرة، أن الأخيرة برفضها للشروط السعودية التي عرضتها الوساطة الإماراتية ورفض مقابلة السيسي لسلمان في أبو ظبي، تعتزم أن تأخذ زمام المبادرة في إدارة خلافاتها مع المملكة على نمط طويل الأمد يرتهن بتدهور الظروف الذاتية والموضوعية للرياض وخاصة المتعلقة بعلاقاتها مع واشنطن واحتمالية تدهورها أكثر في عهد ترامب، والدليل على ذلك بخلاف سعي مصر الحثيث لتطوير وتعميق علاقاتها مع الإدارة الأميركية الجديدة، تراجعها بشأن اتفاقية ترسيم الحدود مع السعودية، والتي أتت كترضية عاجلة للملك سلمان في زيارته لمصر في إبريل الماضي بعد نكوص القاهرة عن مطاوعة السعودية في مغامراتها العسكرية في اليمن وسوريا، ووقف الدولة المصرية بتصريح رئيسها بضرورة الحفاظ على وحدة سوريا ونظامها على عكس ما تريد السعودية، وبالتالي لا يبقى أمام الرياض إلا أن تواصل الضغط على القاهرة بسحب غطائها الاقتصادي وكذا تعزيز العلاقات مع تركيا وقطر على حساب القاهرة، ودعم جماعة الإخوان أو "المعارضة في الخارج" مستقبلاً بشكل قد يؤدي إلى تفاقم الخلافات إلى مستوى غير مسبوق. احتمال انتهاج كل من مصر والسعودية للسياسات السابقة كل تجاه الأخر يرتهن في مداه وفاعليته بموقف الإدارة الأميركية الجديدة تجاه الرياض، والتي إذا ما كانت سلبية وتصعيديه فإن حاجة الرياض للقاهرة ستكون أولوية مُلحة وعاجلة وفاعلة أكثر من حاجة الرياض لأنقرة أو الدوحة في إدارة الملفات الإقليمية وعلى رأسها الملف السوري واليمني، ومن ناحية أخرى فإن القاهرة يبدو أنها أدركت مؤخراً أن في صالحها التعويل على تصفية الأزمة بينها وبين الرياض -للعودة إلى معادلة الشراكة والتحالف لا التبعية والتذيل التي أرادت الأخيرة فرضها منذ تولي الملك سلمان- مرة واحدة وبدون انتكاسه جديدة وآثار جانبية ضارة في الداخل والخارج، مثلما حدث بعد زيارة سلمان في إبريل الماضي، وذلك من خلال تسويف حلحلة الأزمة بينهم في انتظار ما ستقدم الإدارة الأميركية الجديدة حيال السعودية، والمتوقع بنسبة كبيرة أن يكون سلبي لدرجة غير مسبوقة، مما سيجعل المملكة تتخلى عن إصرار تبعية القاهرة لها، والاقتناع أخيراً بأن النظام الحالي في مصر لن يكون له بديل في الداخل أو في الخارج يقدم أفضل مما قدم للسعودية مستقبلاً في ظل إدارة ترامب وفي ظل انكفاء إستراتيجية السعودية في المنطقة.