بتوقيع الاتفاق النووي بين إيران والسداسية الدولية، تحققت مخاوف السعودية من تطبيع معظم دول العالم علاقاتها مع إيران، بعد زوال المانع الأكبر في تطوير علاقات هذه الدول مع دولة كانت توصف حتى وقت قريب بالمارقة، راعية الإرهاب، أحد دول مثلث الشر..إلخ، حيث كانت القطيعة الدولية والعقوبات المفروضة على إيران لأكثر من عقدين هي أساس السياسة السعودية في صراعها مع جارتها الفارسية، فبنت الرياض إستراتيجيتها على أساس عدم تحسن وضع طهران الدولي واستمرار سياسة الحصار والعقوبات، وبالتالي كان من السهل على المملكة أن تنسج سياساتها تجاه إيران وهي مطمئنة لوجود مظلة سياسية وربما عسكرية من الولاياتالمتحدة والمجتمع الدولي، بلغت ذروتها مع غزو العراق، وبدأت في التراجع منذ 2009 على أثر تفضيل واشنطن الانسحاب من المستنقع العراقي ونجاح طهران في ملأ الفراغ في العراق، وإن بقيت العقوبات المرتكز الأهم الذي استندت عليه السعودية في تعطيل وعرقلة الطموحات الإيرانية، وهو ما يفسر تعاطي النظام السعودي إبان حكم الملك السابق، عبد الله بن عبد العزيز، مع الملف الإيراني من منطلق استحالة التوافق بين طهرانوواشنطن في مختلف القضايا وعلى رأسها الملف النووي، وبالتالي وبعد "الربيع العربي" اتخذت المملكة مهمة التصدي للنفوذ الصاعد لمحور تركيا-قطر-الإخوان، الذي كان من شأنه تقويض المملكة ونفوذها في المنطقة عموماً وفي منطقة الخليج على وجه الخصوص، وإمكانية استبدالها من قبل الولاياتالمتحدة بهذا المحور ليكون قاطرة للسياسات الأميركية في المنطقة بدلاً منها، وجاءت الفرصة الذهبية للمملكة في مصر بعد الإطاحة بجماعة الإخوان، فشكلت الرياض مع القاهرة وأبو ظبي محوراً إقليمي على أساس التصدي لنفوذ المحور الإخواني ومحاصرة ما تبقى له من قوة ومحاولة الوصول لوضع إقليمي قريب من وضع ما قبل 2011، فيما تراجع الصراع مع إيران للمرتبة الثانية بالنسبة للسعودية، اتكاءً على اطمئنان الأخيرة للموقف الأميركي. ماحدث بعد يونيو 2013 كان سيسير في هذا الاتجاه لولا متغيرين أساسيين، وفاة الملك عبدالله، والانفتاح الأميركي/الغربي على إيران من أجل تسوية الملف النووي، وهو ما بدأ في نوفمبر 2013 بتوقيع الاتفاق التمهيدي بين إيران والسداسية الدولية لبدء مفاوضات حول برنامج الأولى النووي. وهو الوقت الذي شهد تراجع للسياسة السعودية بعد إخفاقات متتالية في سوريا ولبنان واليمن، ولكن ذلك لم يثني المملكة عن الاستمرار في سياستها وفق الأولويات السابقة، والتي كان يمثلها ويضمن استمراريتها شخص الملك عبد الله ومنظومته الحاكمة، وتوطيد علاقتها مع القاهرة وأبو ظبي على أساس تحالف تقوده الرياض عنوانه التصدي للمحور الإخواني. إلا أن وفاة الملك عبدالله والتغيرات المتلاحقة في البيت السعودي التي أطاحت بكل ترتيبات الملك الراحل داخل وخارج المملكة فكان لها انعكاس كبير تمثل في رغبة الملك سلمان والجناح السديري في لملمة ما رأوه فوضى أولويات الملك الراحل وعلى رأسها الموقف المعادي للإخوان، بالنظر إليها كقوة "سُنية" من الضروري التوافق معها في صراع المملكة مع إيران التي يلوح لها في الأفق اتفاق دولي يعزز من قوتها الاقتصادية والسياسية، بموازاة نجاحها في استغلال واستثمار فوضى السياسة السعودية الخارجية من أول دعم الرياض للجماعات الإرهابية في سوريا وحتى اجتياح داعش لشمال العراق، الذي تعاملت معه طهران بإستراتيجية هدفت إلى هزيمة التنظيم، فيما ذهبت السعودية إلى استثمار الظاهرة إلى أقصى حد بغرض توظيفها، وما عجل أكثر باستدارة تهدف للمصالحة بين الرياض والإخوان هو تطورات الوضع في اليمن، حيث جعل ذلك –في ظل مرض الملك عبدالله- ولي العهد سلمان و ابنه محمد يفتحون قنوات اتصال مع الإخوان في مصر كإعلان بداية تحالف إقليمي جديد عنوانه مواجهة نفوذ إيران، يضم السعودية وتركياوقطر والإخوان، أي باختصار؛ دفعت الرياض علاقتها الجيدة –وقتها- بالنظام المصري عربون تقارب وتفاهم مع الدوحةوأنقرة. اقرأ: خلافات مبكرة بين السيسي وسلمان؟ جاءت "عاصفة الحزم" لتدشن هذا التحالف رسمياً، وأيضاُ بموازاة ذلك أبرز العدوان على اليمن التصدعات في تحالف الرياض مع القاهرة، حيث حولت الأولى شكل العلاقة بينهم إلى تبعية لا تحالف، فوجب على مصر من منظور سعودي الذهاب والقتال في اليمن امتناناً للمساعدات الاقتصادية التي قدمتها المملكة، وبالتالي أصبح الموقف معقداً بين النظام السعودي الجديد والنظام المصري، ليس فقط لتحول شكل العلاقة من تحالف إلى تبعية، بل ضغط السعودية على مصر بأن تقبل بمصالحة مع جماعة الإخوان، أي تخلي النظام المصري عن أهم ركائز مشروعيته ومشروعية 30 يونيو، وقبل ذلك وضع معادلة حاكمة للعلاقات بين البلدين مفادها لاشيء بدون مقابل بعد الأن، فنظير دعم المملكة المالي ودعما للمؤتمر الاقتصادي، اضطرت القاهرة للقبول بالمشاركة في تحالف الحزم، خاصة بعد أن سحبت المملكة الغطاء السياسي والإعلامي والتهديد بإيقاف الدعم الاقتصادي، ولا يوجد هنا أفضل من موقف الرياض من الغارة المصرية على معسكرات داعش في ليبيا للتدليل على ما سبق، حيث عارضت المملكة الخطوة المصرية وشكلت مع قطروتركيا-خصما النظام المصري- تكتلاً لبحث حل سياسي في ليبيا على أرضية بقاء الجماعات المتطرفة كشريك في السلطة هناك وعلى رأسهم إخوان ليبيا، في الوقت نفسه تماهت الرياض مع خطوات الدوحة داخل الجامعة العربية لإدانة الغارات المصرية، ولم تجد القاهرة وقتها تأييداً سوى من أبو ظبي، بالإضافة إلى ضيق هامش المناورة بالنسبة للنظام المصري، الذي لم يجد وقتها سوى التلميح بمخالفة السيناريو السعودي للحل العسكري في سوريا، والتلكؤ في مشاركة بقوات فاعله في اليمن، فالأمر الأول توافقت عليه المملكة مع أنقرةوالدوحة ومدعوم أميركياً، فلا يستطيع نظام يقول أن يحارب الإرهاب وبنى شرعيته على الإطاحة بجماعة الإخوان أن يدعم سيناريو تنفذه الجماعات الإرهابية في سوريا المدعومة بالأساس من تركياوقطر ويشارك في عمل عسكري يصب في مصلحة إخوان اليمن والمحور الإخواني عموماً. اقرأ: بين رفض خليجي ومعارضة غربية وترحيب روسي..ما هي خيارات مصر في ليبيا؟ إلا أن مأزق النظام المصري الناتج عن التعثر الاقتصادي، وحاجته للدعم السعودي حال دون توسيعه لهامش المناورة السياسية، مضطراً للتماهي مع الرياض في مغامرة الحزم، مراهناً على تغير في الموقف السعودي قد ينتج عن تراجع تركيا عن موقفها من إيران بخصوص اليمن، بعد صفقة تجارية بمليارات الدولارات عُقدت بين البلدين، إلا أن الحاجة المتبادلة بين أنقرةوالرياض خاصة فيما يتعلق بسورياوالعراق جعلت من استمرار التلاقي بين العاصمتين بالإضافة إلى الدوحة أمر ضروري، بل عززت السعودية إستراتيجيتها الجديدة بمزيد من الضغط على مصر من أجل مصالحة تنتهي بالإفراج عن رموز جماعة الإخوان وإعادة دمجهم في المشهد السياسي، وهو الأمر الذي قابله النظام المصري بأحكام قضائية قاطعة وصلت إلى حد الإعدام على رموز وقيادات الجماعة وعلى رأسهم الرئيس المعزول محمد مرسي. اقرأ: هل ثمن التحالف بين السعودية وتركيا استغناء الرياض عن مصر ؟ إذن تتعامل السعودية مع مصر منذ تغير منظومة الحكم في الأولى كعبء اقتصادي وسياسي، أو بالحد الأدنى بطاقة ضغط أو ترغيب لهذا الطرف أو ذاك، سواء ضغط وفزاعه عسكرية في اليمن، أو ترغيب للتقارب مع تركياوقطر، في حين أن تحرر القاهرة من الامتنان المبالغ فيه لمساعدات الرياض قد تأخر إلى الوقت الذي فقدت فيه الأولى زمام المبادأة السياسية على مستوى المنطقة، التي كانت حازتها في يونيو 2013، وتلقفتها وقتها السياسة السعودية ووظفتها حسب مصلحتها وإرادة ملكها في ذلك الوقت، وجدير بالذكر هنا أن الدولة الوحيدة المتوافقة حتى اللحظة مع موقف القاهرة هي الإمارات، التي ما زال حكامها يروا أن جماعة الإخوان تشكل خطراً على أمن بلادهم والمنطقة، وبالتالي هم ضد استدارة سلمان بالتحالف مع الإخوان، خاصة وأن هذه الاستدارة تستهدف إيران، وعلاقة الأخيرة بالإمارات جيدة على المستوى الاقتصادي ومرشحة للازدهار أكثر بعد الاتفاق النووي ورفع العقوبات. هنا يجب النظر إلى الاتفاق النووي الإيراني كمعامل رئيسي ساهم في توسيع هامش المناورة ويغير شكل الخارطة السياسية للمنطقة بشكل عام، فأمامه هرولت السعودية في ضبط تحالفاتها في المنطقة على أساس طائفي، يهدف إلى تعزيز وتكريس الصراع السياسي بينها وبين إيران في صورة صراع بين السُنة والشيعة، وما يتطلبه ذلك من إسراع الرياض في معالجة وتسوية باقي التحفظات والخلافات مع أطراف المحور الإخواني، فالعام الماضي قيل أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة جاءت بأوامر ملكية سعودية، والأن يُستقبل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، خالد مشعل، بحفاوة وترحيب في الرياض ويعقد مقابلات مع الملك والمسئولين على ضوء رغبة السعودية في الإسراع في توطيد تحالفاتها الجديدة على النحو سابق الذكر أو ما يزيد عن ذلك بسحب ملف المصالحة والتهدئة وغزة ككل من أيدي القاهرة. اقرأ: السيسي لسلمان: «قوة عربية مشتركة» ولا لقاء بأردوغان ولا تفاوض بشأن الإخوان يتبقى هنا أسئلة هامة منها: ما هو موقف مصر مما يحدث الأن في المنطقة من تغيرات كبرى أعقبت الاتفاق النووي الإيراني، وتبعاته التي تمس مصلحتها وأمنها بشكل مباشر، خاصة مع نكوص الحليف الرئيسي لها في السعودية بتعهداته وعمله بمعزل عن الاهتمام بمصلحة الأولى بل والعمل ضدها بشكل يقترب من المباشرة، وكيف ستواجه القاهرة هذه التغيرات في ظل غياب مؤشرات تدل على تراجع موقف النظام هنا من جماعة الإخوان، بل على العكس يميل أكثر نحو التشدد خاصة بعد سلسلة الاعتداءات الإرهابية الأخيرة التي جعلت من مسألة تنفيذ أحكام الإعدام في رموز الجماعة مطلب شبه شعبي. البديهي هنا أن تبدي القاهرة نوعاً من الانفتاح على محور المقاومة، وفي القلب منه إيران، بعد تجدد وازدياد محفزات التقارب بين البلدين، خاصة بعد زوال العقوبات، وبخلاف العائد الإيجابي من هذا الانفتاح اقتصاديا، فأن هناك عائد سياسي تحتاجه القاهرة حده الأدنى بشده، وهو توسيع هامش المناورة مع الرياض، التي لن تسمح بتطبيع العلاقات بين مصر وإيران، ففي حالة حدوث ذلك، تصبح كل الترتيبات السعودية الأخيرة لمواجهة تداعيات الاتفاق النووي بلا فائدة.