أصبح من الواضح أن القيادة السعودية تفضل تعزيز التحالف مع تركيا إلى أقصى درجة ممكنة، حتى وإن كان هذا التحالف سيؤثر على علاقة المملكة مع مصر، الذي تحول موقعها بحسب ساسة وإعلاميين سعوديين مقربين من دوائر الحكم في الرياض إلى خانة "شريك الاضطرار" أو"الحليف العبء"، فبعد انتهاء أسس التحالف بين القاهرةوالرياض التي وضعها الملك عبدالله بن عبدالعزيز مع نظام 30 يونيو والرئيس السيسي، عقب تحولات داخلية في السعودية أهمها صعود الجناح السديري وأمراءه الذين أبدوا انفتاحاً تجاه تحسين علاقة بلادهم بالمحور القطري-التركي بعد توترات سادت منذ 2011 بسبب سعي الدوحة وأنقرة إلى تخطى سقف الطموح الإقليمي المشروع، مستخدمين جماعة الإخوان كمطية لتمدد نفوذهم الإقليمي تحت غطاء من شرعية "الربيع العربي"، وهو الأمر الذي أزعج الرياض وقتها حتى مع تقاطعها مع المحور التركي-القطري في عدد من القضايا وأبرزها الأزمة السورية، حيث كانت العقبة في استكمال سيرورة هذا التقاطع وتطويره لتحالف هي الموقف السعودي المضاد للصعود الإخواني، والرد عليه بتعزيز التحالف مع نظام السيسي الذي أتى على خلفية خَشية المملكة من تغول جماعة الإخوان وداعميها-وهو ما حدثت بشائره في محاولة قطر التمرد على السعودية في مجلس التعاون منذ 2012، وانصراف تركيا إلى تنفيذ اجندتها الخاصة في سوريا والعراق استقواء بصعود الإخوان الإقليمي- واحتلالهم مكانة السعودية الإقليمية بالنسبة للولايات المتحدة، وكمتزعمة لما تسميه أدبيات السياسة السعودية/الغربية حاليا ب"الإسلام السياسي السٌني"، فسرعان ما انتهزت الرياض فرصة الثلاثين من يونيو وأرست قواعد جديدة لعلاقاتها مع مصر تجاوزت الحد الأقصى المتعارف عليه في علاقات الدول أو حتى تاريخ العلاقة بين البلدين. لكن بمرور الوقت، وبعد تغيرات داخلية وإقليمية عدّة، أدركت الرياض أن القاهرة تُكلفها أكثر اقتصادياً وسياسياً أكثر مما فرض عليها هذا التحالف، سواء لانتهاء بعض من أسباب التحالف كتقلص التباين بينها وبين واشنطن فيما يخص مسألة الإسلام السياسي بعد وفاة الملك عبدالله وصعود الجناح المهادن والمتعاون تاريخياً مع السياسات الأميركية، أو لانفراج أزمتها مع قطر وضرورة تلاقيها مع تركيا من جديد فيما خص الملف السوري، سواء تحت مظلة "الاستراتيجية الأميركية" و"المعارضة المعتدلة" أو تطابق اجندتهما مرحلياً في ضرورة دعم الإرهابيين في سوريا، وهو ما شرعت فيه الرياض رسمياً عقب صعود الملك سلمان ونجله وولي عهده والإطاحة بما تبقى من إرث الملك عبدالله مناصب وأشخاص وقرارات وسياسيات، وخاصة في مسألة التوجه للتعاون مع تركيا في الملفات الأبرز والأهم بالنسبة للسعودية إقليمياً، على رأسها الملف السوري والعراقي. وهنا يلاحظ أن الدولتين ببراجماتية بعيدة عن شعارات طائفية من نوعية "المحور السني" يجدان قوة في تكامل اهدافهما، ولكن حسب متطلبات بعينها أهمها بالنسبة لتركيا استدارة بإيجابية من قِبل السعودية نحو الإخوان المسلمين، وهو ما يعزز من قوة العدالة والتنمية وأردوغان الإقليمية ويعيد الأمل مرة أخرى في "صفر مشكلات"، وعلى الناحية الأخرى وجدت الرياض أنه إذا كان مطلب انقرة الوحيد هو تحسين العلاقة بالإخوان والضغط على القاهرة من أجل مصالحة معهم، فأن ذلك ثمن زهيد أمام الفوائد التي ستعود على السياسة السعودية الخارجية بتحالفها مع تركيا. هذا التحول في السياسة الخارجية السعودية -أساسه أولوية مواجهة إيران ومحور المقاومة- فاضل ما بين الحليف المصري الحالي -وقتها- وما بين الحليف التركي المنتظر، وكما دأبت السعودية في نسج علاقاتها الخارجية، فلم تبادر إلى الاصطدام مباشرة مع القاهرة والطلب منها إجراء مصالحة فورية مع الإخوان، ولكن ذهبت إلى عملية إعادة تقييم شملت عدة اختبارات لمدى تنفيذ القاهرة لتعهدات الدعم السعودي، أبرزها التصريح بضرورة تخلي الأولى عن سياسة الإقصاء، بالتوازي مع فتح حوار بين الرياض وبين رموز من إخوان مصر والمعارضة، وهو ما سبب توتر في العلاقة بين البلدين في الأسابيع الأولى من تولي الملك سلمان بن عبد العزيز للحكم، ثم أتى بعد ذلك الاختبار الأهم وهو "عاصفة الحزم" الذي مثل على الواقع الضرورة التي صرح السيسي أن حيالها مصر لن تقف مكتوفة الأيدي تجاه أمن دول الخليج وحلفائها، والمطالبة بتطبيق تعهد "مسافة السكة" الذي أطلقه إبان ترشحه للرئاسة. وشهدت هذه الفترة تلاسن إعلامي متبادل كُثف على الساحة الإعلامية السعودية، فتم الحديث بوضوح عن كون القاهرة عبء على حلفاءها، وأن دور القاهرة في "عاصفة الحزم" ورفضها للتدخل البري بقواتها أتى مخيباً لآمال الرياض وقادتها، الذين رأوا أن استمرار العلاقات مع النظام المصري على نفس نهج الملك عبدالله تجاه مصر يُكلف أكثر من الفائدة المرجوة منه، أي باختصار تبدل الخطاب الإعلامي السعودي الداعم لثلاثين يونيو ونظام السيسي، إلى انتقاده بل وأحياناً الهجوم عليه والدفاع عن الإخوان. وبالتالي ارادت السعودية من اختبار "عاصفة الحزم" أن تعدل قواعد تحالفها مع القاهرة، والالتفاف أو تأجيل الصدام بشأن مسألة المصالحة مع الإخوان، وأن تُسير العلاقات بين البلدين على اساس براجماتي، فمقابل الدعم المالي المفتوح وتعجيل المصالحة مع قطروتركيا، أرادت السعودية بإيعاز من الولاياتالمتحدة -كعربون للبرهنة على تغير سياسة سلمان عن سلفه- أن تتماهى مصر معها في عدوانها المزمع ضد اليمن، وأن تفتح المجال لعودة الإخوان المسلمين للمشهد ولو بالتدريج، وكما متوقع رسمت القاهرة حدود لتدخلها في مسألة اليمن وأغلقت بأحكام الإعدام المتتالية باب التطرق إلى مصالحة مع الإخوان، حيث وضع ذلك القاهرة في خانة "التابع" لا "الحليف"، وهو ما أتى الرد عليه بالمناورة بأوراق استضافة المعارضة السورية في القاهرة، وفتح قنوات اتصال مع أنصار الله وتقديمهم في الإعلام المصري بإيجابية متبادلة قبل "عاصفة الحزم" وهو ما استمر بشكل غير رسمي حتى بعد العدوان السعودي، وقدوم مبعوث حليف أنصار الله، أبو بكر القربي، إلى القاهرة ولقاءه بمسئولين دبلوماسيين وأمنيين. وفي هذا السياق، يتبقى تساؤل هام حول مدى فوز السعودية برهان نجاح أهدافها في اليمن وسوريا أم لا، وهو الرهان الذي تطلب تعجيل التحالف مع تركيا وباستدارة إيجابية لجماعة الإخوان على حساب مصر، وارتباط نجاحه أولاً بمدى تحقيق الحليفين في الرياض وأنقرة إنجاز سريع على صعيد الملف السوري، أي إنجاز ميداني يتم على يد ذراعهما العسكري في سوريا"القاعدة في بلاد الشام-جبهة النُصرة-جيش الفتح" وغيرها من الفصائل المسلحة بما في ذلك "المعتدلة" أو ذات الخلفية التكفيرية، ومن ثم تصبح الرؤية السعودية-التركية هي الغالبة على أي رؤى أخرى تجاه الأزمة السورية، ولكن حتى الأن لا يبدو أن هناك أفق لمثل هذا الإنجاز، الذي أحبطه الجيش السوري والمقاومة اللبنانية، والأمر مماثل في اليمن أيضاً من حيث ضرورة إيجاد مخرج مشرف للرياض، حيث تعثرها عسكرياً في اليمن يتزايد على نحو متصاعد إلى الدرجة التي تعرضت فيها العمق السعودي لضربات عسكرية موجعة، بالإضافة إلى انتصار سياسي يُحسب لأنصار الله والقوى الثورية اليمنية يكمن في قبول السعودية الذهاب إلى مؤتمر جينف المزمع عقده دون فرض اجندتها المتمثلة في عودة هادي وخروج الحوثيين من عدن..إلخ، أو حتى رفضها لمشاركة إيران في المؤتمر حول اليمن كأحد القوى الإقليمية الفاعلة، وذلك بعد محادثات تمهيدية في سلطنة عُمان فرض فيها اليمنيين شروطهم بدعم إيراني وروسي وموائمه اميركية تطلب حل سريع للأزمة اليمينية. ما سبق يرتهن لأمرين أساسيين، أولاً: مدى استمرار السياسة الاردوغانية في المستقبل المنظور تجاه ما يحدث في سوريا، خاصة بعد النتائج الأخيرة للانتخابات البرلمانية في تركيا والتي من ضمن تأثيراتها قريبة المدى على السياسة الخارجية لأنقرة هو تراجع نفوذ العدالة والتنمية وسياسة اردوغان الخارجية كانعكاس ضروري لصدمة انتهاء التفرد والاستحواذ المطلق على البرلمان والحكومة في تركيا، اللذان مكانا فيما سبق من تمادي أردوغان في سياسيته تجاه سوريا على مدار السنوات الماضية. ثانياً: كما أوضحت "عاصفة الحزم" مدى التباين بين القاهرةوالرياض في عدد من القضايا الإقليمية، فأنها أثبتت للأخيرة أيضاً أن حليفاتها ذوي الثقة والثقل العسكري والاستراتيجي (باكستان) لم يسعفها عند الحاجة، وكذلك الأمر كان بالنسبة للحليف التركي الجديد، الذي اكتفى بتأييد محدود ودور أقل من دور المملكة المغربية في "عاصفة الحزم"، وسرعان ما نزع الحليفين أيديهم بعد تفاهمات سياسية واقتصادية ضخمة مع إيران، أي باختصار كان الموقف المصري تجاه "عاصفة الحزم" على الرغم من كل عواره من المنظور السعودي، إلا أنه كان موقف الأفضل من بين حلفاء المملكة. وفيما تستمر العلاقات المصرية-السعودية حتى كتابة هذه السطور في حالة سيولة آمنة نسبياً، تحكمها براجماتية ومنطق الحاجة المتبادلة، إلا أن هناك تساؤل حول ما إذا أرادت السعودية أن تمس الخط الأحمر الذي رسمته القاهرة في هذا الشأن وهو إعادة الإخوان للمشهد والتعاطي معهم من باب المصالحة، سواء كان ذلك بتأثير من ضغط أميركي أو إرادة حكامها الجدد وخاصة وليّ العهد ووليُّ وليّ العهد المبديان لرغبة في التحالف مع تركياوقطر، فأن في هذه الحالة لن يتبقى كثير من الخيارات أمام كل من الرياضوالقاهرة، وستميل المعادلة الحاكمة للعلاقات بينهم نحو الصفرية أكثر، وهذا في حال اختارت السعودية تأزيم علاقاتها مع الجارة الكبرى نظير تحالف تكتيكي مع تركيا ومحور الإخوان. موضوعات متعلقة: