تأتي الزيارة الوشيكة للملك سلمان بن عبد العزيز إلى القاهرة لتنهي فترة من التوتر بين البلدين بدأت منذ الأيام الأولى لتوليه الحكم في المملكة، وذلك على خلفية التباينات التي حدثت بين النظامين الجديدين في كل من مصر والسعودية، بسبب إقدام الأخيرة على عدة إجراءات ابتدئها الملك السعودي ومنظومته الصاعدة حديثاً وقتها، والتي منها على سبيل المثال الاستدارة الايجابية نحو المحور التركي-القطري-الإخواني، بما تصادم مع رؤية النظام المصري الذي بنى سياسته الخارجية منذ الثلاثين من يونيو على الدعم السعودي اللامحدود والذي كان يشرف عليه ويدعمه الملك السعودي السابق، عبدالله بن عبد العزيز، والذي تلقف ما حدث في مصر عام2013 لإعادة ضبط ما اختل في ميزان المصلحة السعودية من توازنات إقليمية نتجت بعد ما يُسمى ب«الربيع العربي» الذي صب في مصلحة المحور السابق ذكره على حساب نفوذ المملكة من اليمن وحتى سوريا. إلا أن المسار الذي اتبعته المنظومة السديرية الحاكمة وعلى رأسها الملك سلمان، أتى على عكس مسار المصلحة المصرية التي كانت تتقاطع مع منظومة الملك عبدالله والتي عولت القاهرة في استمرارها على وصول جناح نجل الملك الراحل ورئيس الديوان الملكي الأسبق، خالد التويجري إلى عرش المملكة، ولكن بحدوث عكس ذلك جعل الأمور تصل إلى ضغط الرياض على القاهرة طيلة الفترة الماضية لعقد مصالحة مع المحور الإخواني، بالإضافة إلى وضع ملفات مثل الأزمة السورية وحرب اليمن على المحك بين البلدين، والتي تباينت فيها أولويات ورؤية القاهرة عن الأولويات السعودية، وهو ما رأته الأولى نكوص عن مبدأ الشراكة والتعاون الذي حكم العلاقات بين البلدين منذ عقود إلى شكل من الالتحاق والتبعية للسياسة السعودية أياً ما كانت وحتى إن أتت على حساب المصلحة المصرية في الداخل والخارج. ومعروف أن القاهرة حظيت بأكبر قدر من «المال السياسي» السعودي وخاصة في السنوات الثلاث الماضية، حيث بلغت المساعدات المالية التي قدمتها الرياض إلى الحكومة المصرية في هذه الفترة بين 15 و20 مليار دولار، وانقسمت إلى منح وقروض وودائع مالية لتحسين موقف مصر الائتماني، بالإضافة إلى الاعتمادات النفطية المفتوحة، وهي نفس القيمة المتوقعة للاتفاقيات على المشروعات والقروض والمنح التي ستسري رسمياً بعد زيارة الملك السعودي المرتقبة إلى مصر. هذه الأموال لم تجعل مواقف القاهرة الخارجية على توافق تام مع سياسة الرياض، خاصة في ما يتعلق بالأزمة السورية. ومنذ العام الماضي، كان التباين بين البلدين بخصوص سوريا يتخذ منحنى تصاعدياً إلى أن أعلنتها مصر صريحة قبل أيام عن رفضها لأي تدخل عسكري بري من جانب السعودية في سوريا، هذا بالإضافة إلى التلكؤ الذي اعتمده النظام المصري بشأن تعديل موقف القاهرة حيال جماعة «الإخوان المسلمين»، وتحسين العلاقات مع تركيا، وقبل كل هذا تحفظ مصر عن السير في ركب السياسات السعودية المليئة بعقد التحالفات العسكرية، بداية من تحالف «عاصفة الحزم» وصولاً إلى «التحالف الإسلامي».. باختصار لم تحصل الرياض على ما أرادته بالكامل من القاهرة في مقابل المساعدات المالية التي ضختها طيلة السنوات الثلاث الماضية. القاهرة بين الانسحاب الأميركي والارتجال السعودي هذه التعقيدات السابق ذكرها والتي طرأت على العلاقات المصرية السعودية منذ بداية العام الماضي كان محور تدوير زواياها هو رؤية الرياض أن المساعدات الاقتصادية التي قُدمت وستقدم للقاهرة ينبغي أن يتبعها التصاق مصري تام بمواقف المملكة في المنطقة، سواء فيما يتعلق بسياستها التوافقية مع المحور الإخواني، أو حرب اليمن، وقبل كل ذلك الأزمة السورية، على اعتبار أن ما تقدمه السعودية لمصر يأتي في إطار «المال السياسي» الذي في نظيره يجب أن يحدث السابق، وهو ما رأته القاهرة أنه أساس جديد على ما حكم العلاقات بين البلدين منذ حرب الخليج الثانية، ففي حين كانت العلاقات بين الرياضوالقاهرة في عهد حسني مبارك قائمة على الشراكة تحت مظلة السياسات الأميركية، بالإضافة إلى اعتبارات ثنائية منها على سبيل المثال حفظ السعودية على ظهير استراتيجي أمام إيران، حافظ نظام مبارك على سياسة إمساك العصا من المنتصف واتخاذ المواقف من زاوية تقاطع المصالح بين مصر والسعودية. أما في عهد السيسي، وفي ظل تبدل المنظومة والسياسات بعد وفاة الملك السابق عبدالله بن عبد العزيز، صارت السياسة المصرية تقوم على التحاق القاهرة بمواقف الرياض الخارجية، حتى في ما يتجاوز مبدأ تقاطع المصلحة، عبر القبول بها بدافع الامتنان للمساعدات المالية، حتى وإن خالف ذلك مصلحة مصر في ما يتعلق بقضايا داخلية وخارجية أصل هذا التحول جاء نتيجة الارتجال السعودي في تعويض الغطاء السياسي الأميركي الذي كانت تحظى به الرياض، وتقلصه في عهد إدارة باراك أوباما وتعاطيها مع المنطقة ومتغيراتها بعد العام 2011 بشكل لم يكن دائماً على وفاق مع مصلحة الرياض، سواء في ما يتعلق ب «الربيع العربي» وصعود نجم جماعة «الإخوان المسلمين» وقطروتركيا، أو في رغبة واشنطن في تجنب الحرب مع إيران وتسوية الملف النووي. هنا بدأت السعودية، وللمرة الأولى في تاريخها، تنتهج سياسة خارجية قائمة على الاعتماد على نفسها كما تصورت كقوة إقليمية تشكل التحالفات وتتخذ المبادرات تجاه ما لا يوجد توافق فيه بينها وبين واشنطن التي تعمل حالياً على الانسحاب من الدور التنفيذي لسياساتها في الشرق الأوسط واعتماد ذلك على الوكلاء والحلفاء المحليين طبقاً لأولوياتها وليس أولوياتهم. بين الشراكة والتبعية وفي هذا السياق تلقفت السعودية ما حدث في مصر في الثلاثين من حزيران العام 2013، ورمت بثقلها السياسي والإعلامي والمالي وراء السلطة الجديدة في مصر، بغية إعادة التوازن لصالحها في المنطقة بعد «خسارتها» لمصر منذ العام 2011 لصالح المحور الإخواني القطري التركي، وقررت إعادة معادلة العلاقات بين القاهرةوالرياض إلى ما قبل هذا التاريخ، أي مرحلة مبارك، وتكريس مبدأ الشراكة وتقاطع المصالح، وهو ما كان يُرضي كلا من السلطة الجديدة في مصر التي احتاجت إلى الدعم المالي والسياسي السعودي، وطموحات السعودية في ظل متغيرين أولهما استيعاب ما حدث بعد العام 2011 وظهور محور منافس يهدد نفوذها حتى في منظومة التعاون الخليجي، وثانيهما إدارة واشنطن ظهرها أمام المطالب والتخوفات السعودية عشية تسوية الملف النووي مع إيران. لكن هذا التلاقي التام بين القاهرةوالرياض لم يستمر أكثر من عام، بسبب ارتباطه بشخص الملك عبدالله، فعقب وفاته والانقلاب داخل البيت السعودي وانعكاس ذلك على السياسات الخارجية واتجاه بوصلة الرياض للتعاون مع قطروتركيا، بدأ التباين في الاتساع بين مصر والمملكة، خاصة أن الأخيرة أخذت تدير علاقتها مع الأولى من منطلق التبعية وشراء المواقف لا الشراكة، انطلاقاً من وجوب امتنان القاهرة للمساعدات السعودية وربطها مستقبلاً بمدى استجابتها للمطالب التي تحددها السعودية، وكل ذلك في ظل عشوائية وفشل السعودية في اليمن وسوريا، وهو ما فضلت القاهرة أن تواجهه بالمماطلة والتسويف، خاصة في ما يتعلق بمسألة إرسال قوات مصرية إلى اليمن أو سوريا أو المصالحة مع «الإخوان المسلمين» وتطبيع العلاقات مع تركيا. هذا الأمر خلّف عند السعوديين طيلة الفترة الماضية تذمراً لم تخفه الابتسامات أمام الكاميرات ولا التصريحات الدبلوماسية التي طالما أكدت على وحدة موقف البلدين. هذا الغضب ليس منبعه فقط ضعف استجابة القاهرة لمطالب وتوجيهات الرياض، ولكن لأن القدرة المالية للمملكة النفطية لم تعد كما كانت، وأن إغداق الأموال بلا حساب أصبح طي الماضي بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعانيها السعودية منذ العام الماضي، وهو ما ترجمته العملية تنحصر في «ترشيد» المال السياسي، الذي يقود إلى معادلة جديدة مفادها أن أي إنفاق في هذا الصدد ينبغي أن يصاحبه مقابل سياسي حاسم، خاصة أن الرياض تشعر حالياً بوحدتها في ورطة اليمن التي تدخل عامها الثاني من دون أي إنجاز سعودي، وكذلك قرب خروجها من سوريا بلا تحقيق أي مكاسب، وأخيراً خسارتها القدرة على إدارة دفة سياسات المنطقة في الهامش الذي خلفته سياسات إدارة أوباما. وأمام انسداد أفق بدائل سياسية للقاهرة في المستقبل المنظور، وحاجتها المُلّحة للمساعدات السعودية، كان من الطبيعي أن تبدأ السلطة في مصر في تدوير زوايا تعاطيها مع رغبات المملكة، وخاصة وأن الأولويات التي كان عليها الخلاف أضحت خارج سياق الفاعلية، سواء المتعلقة باليمن التي ترغب المملكة في إنهاء حربها هناك عن طريق حل سياسي، أو سوريا التي أضحت أزمتها رهن توافق أعلى بين روسيا والولايات المتحدة. لتعود معادلة العلاقات بين القاهرةوالرياض إلى مربعها الأساسي ما قبل 2011، والتي تعول فيها القاهرة على حاجة السعودية للظهير الاستراتيجي التاريخي منذ ثمانينيات القرن الماضي، أو حتى على مستوى حاجة الرياض إلى الإبقاء على علاقتها مدفوعة الثمن مع القاهرة في ظل التوافق الدولي والإقليمي على ما يخالف هوى المملكة وخاصة في ما يتعلق بالأزمة السورية، ويقابل هذا من جانب مصر تعاطي إيجابي مع أولويات المملكة في حدود الممكن والمتاح –مثل تماهي مصر مع رغبة السعودية في تصنيف حزب الله اللبناني كمنظمة إرهابية، وإيقاف بث قناته وقنوات لبنانية أخرى على النايل سات- وفق مبدأ التحدي والاستجابة، والذي ربما تعول القاهرة على تغيره مستقبلاً.