في هذا التوقيت ال 7.30 مساءا.. من العام الماضي . بعد 7ساعات من المواجهات والكر والفر بدءً من مواجهات جامعة القاهرة إلى مواجهات كوبري القصري العيني الطاحنة، قادمين من الجيرة وضواحيها .. تبقى معارك الكوبري وبطولة الشباب وبسالتهم لا تصفها الكلمات، وما أن أمر بذاكرتي عليها، تستعصي على الإدراك.. لها قدسية وهيبة تجبرك أن تنحني لها راكعاً ساجداً.. بطولات سماوية.. أخيراً دخلنا الميدان عند المغرب.. تأخرت قليلاً عن الصفوف وتنحيت جانباً لالتقط أنفاسي المعبئة بالغاز.. المشهد مهيب وأصوات الطلقات ورائحة الغاز تملأ الأجواء والكثيرون يتساقطون من الإعياء.. أخذت أساعد من أستطيع، ملأت للقادمين من الصفوف الأمامية زجاجات مياه .. بعضهم مصاب وكثيرون منهكون... لمحت وسط الظلام والدخان صفوف تصلي.. صليت العشاء وأمامي ضرب النار والغاز وسيارات محروقة وأصوات التكبيرات والضجيج القادم من الضرب على حديد كوبري قصر النيل من الخلف ليوقع الرهبة في قلوب قوات الأمن.. أسرعت فى إنهاء الصلاة.. عدت للصفوف الأمامية، حيث الأبطال الحقيقيون للثورة ممن سموا لاحقا بالبلطجية والأشكال البيئة!.. أثناء التقدم قابلت كثيرون ممن أصيبوا تواً أحدهم أخذ رصاصة فى يده يمسكها ويتألم “اااه يا ولاد ال ...”.. وآخر رأسه ينزف دما يحمله أربعه مسرعين للمستشفى الميداني. كان هناك خطان للمواجهات.. حاولت الانتقال للخط الثاني على ناصية الشارع لقلة عددهم وحاجتهم للدعم.. وابل من الرصاص انهال عليهم .. تراجعت في اللحظة الأخيرة قبل أن القى حتفي للخط الأول المواجه لشارع القصر العيني وتقدمنا خطوات.. في لحظة واحدة دارت بي الدنيا وسقطت أرضاً.. اخترقت عيني رصاصة غدر، صرخت من الألم حملني اثنان وانتقلت للمستشفى الميداني ثم إلى مستشفى المنيرة ثم بعربة أنانيب صغيرة إلى القصر العيني بمعجزة حيث كان المصابون يعتقلون من الشوارع المؤدية للمستشفيات! لم استطع الاتصال بأهلي ولا أعرف هنا أحداً والإصابات حولي كثيرة للغاية.. اعتصرت حزنا.. حولي مصابي العيون منهم السلفي والإخواني وشباب العشوائيات كثيرون.. أخذنا نواسي بعضنا بعضاً أثناء انتظار الأشعة المقطعية.. كنت أتمنى أن يلفظ أحد الأطباء بأنها إصابة بسيطة لأعود سريعاً.. كانت الردود أكثر إيلاماً من الجرح ذاته بأن الإصابة شديدة ولا أمل في العلاج: (إنهرت من الصدمة وما زادها عدم قدرتي الاتصال بأهلي، ليس هناك من يواسيني، حتى المصابين تركتهم... ألقيت على سرير حتى الصباح، كل ما استوعبته أني تركت روحي بالميدان، وانتقلت هنا أنتظر المجهول، لا إتصالات، لا عمليات، لا أهل، لا أحد إلا الله. استوعبت الموقف وهدأت وأخذت أحمد الله وأشكره على قدره فهو الملك، ” الرؤوف الرحيم بعباده ” تذكرت أنى تمتمت بهذه الكلمات عند مرض أبي واستعصائه على الشفاء وتيقني أنها أيام ويرحل عنا” كم أحاطني الله حينها بالسكينة والثقة فيه.. شرد ذهني كثيراً.. في حالي وحال التحرير.. ماذا عن أخي كرم؟ تهنا عن بعضنا منذ أربع ساعات كاملة ولا أعرف أهو بخير أم أصابه مكروه .. ماذا سافعل؟ متى ستعود الاتصالات؟ لا أعلم شيئا على الإطلاق.. انتهبت لصوت خافت.. رجل مسن جاء برفقة أحد المصابين.. أخذ ينظر إلينا ويُسبح الله ويدعوا لنا بالشفاء.. ما زالت كلماته نابضة داخلي لا أنساها كم كانت تبعث الاطمئنان والسكينة.. أخذني النوم بعد الإنهاك الشديد.. واستيقظت صباحاً لأجد عدسات الصحفيين تلتقط الصور لتتاجر بنا على صفحاتها.. والمكان تم تنظيفه بعناية وبجوار كل مريض وجبتان! وحديث عن مرور شخصية هامة لتفقّد المصابين. رفضت التصوير وإجراء أي حوار.. فما وزن الكلمات والدم ينزف؟. نطرت في الهاتف.. هه شبكة! اتصلت سريعاً بأهلى ودمعت عيناي وأختنق صوتي لتمنكي من الوصول إليهم أخيراً.. وصل إخوتي عند وصول اسمي أخيراً لدوره في العمليات، بعد إجرائي لأول عملية في حياتي.. استيقظت على وجوه أحب الناس إلى قلبي.. إخوتي وزوجتي وحمايا وحماتي وافتقدت أمي كثيراً.. لم يخبروها بما حدث بعد خوفاً على مشاعرها. انتقلت إلى مستشفى خارجي.. كان التشخيص النهائي.. إنفصال فى الشبكية وإنفجار فى قرنية العين وعدم وحود قزحية ولا عدسة للعين. أخبرني الطبيب أن الإصابة شديدة ولا يعرف نتائجها.. فقط سيقوم بما يستطيع وما الشفاء إلا من عند الله . الآن مر عام كامل .. أجريت خلاله ثلاثة عمليات.. أنتظر عملية أخرى في مطلع هذا العام، إن نجحت سأتبعها بعملية زرع القرنية ثم زرع العدسة.. وانتظر النتيجة. أعجر عن الشكر لمن واساني في مرضي، أهلي جميعاً، وعظيم الامتنان لطبيبي أ.د. حسن مرتضى.. الذي بذل معي أقصى جهده. وكم أفتقد أبي.. أفتقد خوفه عليّ ورفقه وتدليلي لي “لأني أخر العنقود” .. رحمك الله يا تاج رأسي، نم في سلام . فخور لأن الله أختار مني شيئا ً في سبيله وأسأله القبول .. فخور لأني من هذا الجيل الثائر على الظلم . أجدد العهد لله على الطريق .. مقبلاً غير مدبر .. سائلاً إياه العون والثبات. لسه العيون فيها النظر.. قادرة تشوف الضي.. قادرة تشوف مليون قمر يضوي الطريق الجاي.. والفكرة ملهاش نهاية ولا بالحجر ولا بالرصاص الحي محمد على جلال 28 / 1 / 2012 7.30 مساءا .